نحتفي اليوم بمرور ما يقارب الخمسين عامًا على عرض واحد من أهم الأفلام في السينما المصرية، وهو فيلم "أريد حلًا" للراحل سعيد مرزوق الذي عُرِف بجرأته في تناول العديد من القضايا المجتمعية الحسّاسة، من بينها معضلة قوانين الأحوال الشخصية التي كانت مجحفة في حق النساء المصريات.
تمّ عرض فيلم "أريد حلًا" سنة 1975 وقد لاقى نجاحًا جماهيريًا منقطع النظير، لأنّه جمع بين فخامة أداء الثنائي الذهبي فاتن حمامة ورشدي أباظة، وبين حساسية طرح قضية حقوقية مُلحّة. فكيف ساهم "أريد حلًا" في هز بركة التمييز الجنسي الراكدة؟.
سينما المرأة.. سبيل للتحرّر وأداة لهدم التابوهات الفكرية
خاضت النساء العربيات معارك شرسة عبر محطات تاريخية حاسمة لانتزاع حقوقهن الإنسانية الأساسية. وقد امتد نضال المرأة العربية على مدى عقود طويلة من الظلم والتحقير والتهميش، وهو نضالٌ زرِعت بذرته الأولى الناشطة المصرية الراحلة هدى الشعراوي، لتمتد جذوره وتنمو وتزدهر من محيط طنجة إلى خليج عدن.
شهدت المنطقة العربية وتحديدًا خلال العقود الستة الماضية، نهضة حقوقية كبرى راكمت من خلالها الحركة النسوية زخمًا نضاليًا كبيرًا ونضجًا فكريًا مهمًّا. وحصدت من خلالها النساء العديد من المكاسب التشريعية المتعلقة بقوانين الأسرة والأحوال الشخصية.
لقد ناضلت فاطمة المرنيسي ونوال السعداوي من أجل تفكيك العقل الذكوري وتحطيم التابوهات الجنسية، بينما رفعت كل من مليكة الفاسي وصفية زغلول سلاح المقاومة السلمية في وجه المستعمر الفرنسي والبريطاني، وساهمتا بشكل كبير في حصول الفتيات والنساء على حقهن في التعليم، كما ساهمت أسماء أخرى في تحسين أحوال المرأة، لأنّهن وضعن أنفسهن بشجاعة على خطوط الدفاع الأولى.
التحقت السينما المصرية في هذا السياق بساحة المعركة من أجل المساواة، لتقدّم لنا أفلامًا ناقشت قضايا المرأة بجرأة وواقعية، مثل فيلم "الأستاذة فاطمة"، إنتاج عام 1952 والذي قدّم فيه فطين عبد الوهاب في قالب كوميدي لطيف معاناة النساء في اقتحام مهن كانت تُعتبر "رجالية" آنذاك. نجد أيضًا فيلم "أنا حرّة" والتي أبدعت فيه لبنى عبد العزيز في تقديم دور الفتاة المصرية التي حطمت بشجاعة ما يُصطلح عليه سيكولوجيًا بـ"الصدمات المتوالية للأجيال".
إلّا أنّ ما يُميّز "أريد حلًا" ليس جرأة الخوض في مواضيع حساسة مثل فتور العلاقة الحميمية بين الزوجين أو الحيف الصريح ضد المرأة فيما يتعلق بقضايا الزنا والخيانة الزوجية وحسب، أو حرمان الأم من حق الولاية الكاملة على أطفالها، بل إنّ ما مَيّز رائعة مصطفى مرزوق، قدرة هذا العمل السينمائي القيّم على تحقيق تغيير قانوني ملموس، إذ يُذكر أنّ سيّدة مصر الأولى جيهان السادات، كانت قد أُعجبت بشدة بقصة الفيلم وأبدت تعاطفًا كبيرًا مع المعاناة القاسية للنساء والأمهات، والتي أبدعت في تجسيدها بواقعية ورصانة سيّدة الشاشة العربية، بل حيث عمِلت جيهان السادات سنة 1979 على التعجيل بإجراء تعديلات تشريعية منصفة للنساء في قانون الأحوال الشخصية المصري، وهي التعديلات التي عُرِفت فيما بعد بـ"قانون جيهان".
اليوم، وبعد مرور خمسة عقود على عرض الفيلم، لا نملك إلّا أن نتساءل: هل لا زالت المرأة العربية تريد حلًا؟
نعثر على إجابة مؤسفة لهذا السؤال المُلحّ من خلال القصة الواقعية الصادمة التي طرحها الفيلم الأردني/النمساوي/الإسباني المشترك من إنتاج عام 2023 بعنوان "العنقاء"، والذي سلّط الضوء على ما يُعرف بـ"جرائم الشرف" المتفشية في العديد من الدول العربية.
طرح الفيلم معضلة "جريمة الشرف" عبر زاوية معالجة مغايرة، حيث سلّطت مخرجة العمل الضوء على النساء اللواتي يقبعن في سجن "الجويدة" بالعاصمة عمان، هربًا من بطش ذويهن بعد تعرّضهن لعمليات اغتصاب نتج عنها حمل، إذ يُفضّل القانون الأردني الزج بهؤلاء النسوة مع أطفالهن في غياهب السجون بدل عقاب ذكور القبيلة.
توجّه المخرجة هيلين جيليك السؤال لإحدى السجينات قائلة: يقولون إنّك بقايا امرأة، وإنّك مجنونة، وليس لك وجود. فتجيب السيدة بقهر شديد وصوت مختنق بالدموع، ولكن بصرامة وقوة: "أنا لستُ البقايا، أنا موجودة"، ونزعم أنّه من العار أن تظلّ السلامة الجسدية والنفسية للنساء العربيات تحت رحمة أسوأ أنواع الفكر الذكوري، لأنّه لا شرف في الجريمة.
تحكيم صنّاع القرار.. محرّك مفصلي لتأسيس مجتمعات تحفظ كرامة النساء
من المعلوم أنّ صدى أصوات الجماهير الشعبية يُعتبر فاعلًا رئيسًا في أحداث بعض التحوّلات السياسية والاقتصادية، والنموذج هنا ما جرى مع أحداث "الربيع العربي"، لكن حين يتعلّق الأمر بالسير وسط حقول الألغام التقليدانية المتعّلقة بالمرأة، فيجب التعامل بحذر مع نضال الشارع الذي لا زالت شرائح واسعة منه قابعة تحت سطوة الرجعية الفكرية.
الملاحظ أنّ العديد من المكتسبات الحقوقية والتشريعية للنساء العربيات كانت بمبادرات ملكية أو رئاسية شجاعة، حيث عمل من خلالها القادة العرب على إنصاف المرأة وحماية نضالاتها من تشويش التيارات المتشدّدة. وكمثال على ذلك، نجد أنّ مطالب المرأة السعودية بالمساواة كانت في قلب "رؤية 2030" المستقبلية، أو كيف دعمت المؤسّسة الملكية في المغرب، مطالب النساء المغربيات في معركة الكرامة.
لكن رغم هذه الجهود المكثفة لإرساء المساواة الحقة بين الجنسين والسعي إلى إنصاف النساء من ظلم التشريعات المتجاوزة، لا زالت وضعية المرأة العربية متأرجحة بين سندان التعقيدات القانونية ومطرقة التيارات المتطرّفة التي تحترف الحشد الجماهيري والتجييش العاطفي ضد أي تغيير إيجابي في صالح النساء.
وكمثال على ذلك، الخرجة الإعلامية غير الموفقة لرئيس الحكومة المغربية السابق عبد الإله بنكيران، زعيم حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، والذي أدلى بتصريحات مسيئة لنضالات أجيال من المغربيات اللواتي ضحّين بالغالي والنفيس من أجل الدفع بوتيرة التغيير الدستوري فيما يتعلق بالعدالة الجندرية، عندما صرّح بأنّ إلغاء زواج الطفلات سيساهم في تزايد معدلات العنوسة! بل دافع بشراسة عن تعدّد الزوجات دون قيد أو شرط، واعتبر الدعوات إلى تحديث نصوص مدونة الأسرة المغربية بمثابة تهديد وهدم لقيم وثوابت الدين الإسلامي.
إنّ الأمثلة عن قيام التيارات الدينية المتشدّدة بلعب دور الرقيب الأخلاقي على مطالب التغيير كثيرة ومتعدّدة، نذكر منها أيضًا المشاحنات والمزايدات الأخلاقية التي أثارها أنصار حزب "النهضة" التونسي مباشرة بعد اندلاع شرارة أحداث 2011، حيث تغافل هؤلاء عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية الملحة التي من أجلها قامت "ثورة الياسمين"، ليُركّز أتباع راشد الغنوشي جهودهم على انتزاع مكتسبات المرأة التونسية والعودة بها إلى زمن القهر.
نجد أيضًا الصراع المرير الذي خاضه المجتمع المدني المصري ضد ظاهرة ختان الفتيات، وهي القضية التي كانت قد تفجرت لأوّل مرة سنة 1994 خلال المؤتمر الدولي الخامس للسكان والتنمية بالقاهرة، حيث تم طرح آفة الختان للنقاش المجتمعي آنذاك، لتنجح مصر وبعد أقل من عقدين من الزمن في سنّ تشريعات تجرّم ممارسة ختان الطفلات.
وقد حظيت هذه التشريعات بدعم من مؤسّسة الأزهر، وهي أكبر مؤسّسة دينية في مصر، حيث أكّدت دار الإفتاء على أنّ "ختان الإناث من قبيل العادات وليس من قبيل الشعائر، إذ لم ترد فيه أوامر شرعية صحيحة وثابتة لا بالقرآن ولا في السنّة". لتكون بذلك منظمات المجتمع المدني المصري قد كسبت جولة مهمة في معركة الكرامة الإنسانية.
لا زالت طريق الكفاح متعثّرة أمام المرأة العربية المحاصرة بالتابوهات الإيديولوجية ووصمات العار الاجتماعي، إلّا أنّ إصرار النساء على الثبات في أرض المعارك الحقوقية، يبقى رسالة واضحة للعديد من الجهات التي تسعى إلى جر المجتمعات العربية نحو ردة فكرية صريحة.
المرأة العربية اليوم لا تريد حلًا، بل هي الحل.
(خاص "عروبة 22")