تقدير موقف

"مأزق التعليم في مصر".. الطريق إلى المستقبل (4/4)

في المقال السابق تطرقنا إلى محورَيّ (الميزانية، والمعلّم) باعتبارهما من المحاور والأُسُس التي يُعد تطويرها هو حجر الزاوية للنهوض بالمنظومة التعليمية في مصر، وفي هذا المقال نقف على بقية المحاور التي لا يمكن لأي عملية تعليمية أن تقوم بدورها في بناء القدرات البشرية ومن ثم شق مسيرة التقدّم بدونها.

وكي يكتمل بناء المنظومة التعليمية، يجب على الحكومة أن تضع نصب عينيها باقي المحاور التي تحتاج إلى دعم وتطوير، وهي: (المناهج، المدارس، الأنشطة، طرق التدريس، التقويم، الأهداف، الإرادة).

نحو مناهج تعليم عصرية وتقويم مختلف

يعلم المهتمون أنّ المنهج الدراسي ليس هو الكتاب المدرسي المقرّر فحسب، بل أنّ هذا المنهج يجب أن يشمل مجمل الأنشطة والتجارب والقيم والاتجاهات والمعارف والأفكار التي تدور حول علم معيّن من العلوم، ومن هنا فإنّ الكتاب المدرسي هو إحدى مفردات ذلك المنهج.

هذا المفهوم الواسع للمنهج، تم اختزاله في الكتاب المدرسي المقرّر، لأسباب عدة، منها تواضع مستوى إعداد المعلّمين، وفقر المعامل والمختبرات وقلّة إمكانياتها، وقلّة ميزانية الأنشطة، وسهولة التدريس والامتحان بالطرق التقليدية سواء بـ"الإلقاء والتلقين"، أو بـ"الحفظ والاستظهار".

يجب أن تعتمد المناهج على أنشطة ونقاشات الطلاب وأبحاثهم وليس على الحفظ والإلقاء والتذكّر

ولا شك أنّ كل تلك العوامل السابقة لم تكتفِ فقط باختزال المنهج الدراسي في الكتاب فحسب، بل يُضاف إليها تزاحم الطلاب وتسابقهم في سبيل النجاح والانتقال من صف لآخر ومن مرحلة لأخرى مما أدى إلى اختزال العملية التعليمية كلها في الامتحان نفسه، فأصبح الامتحان والنجاح فيه هو محور الدراسة كلّها. وأصبح التلميذ كما يرى طه حسين "يُكبر الامتحان وهو تافه، ويُعرض عن التعليم وهو لب الحياه وخلاصتها".

ومن الناحية العلميه والموضوعية لا يملك أحد أن يمسك بين يديه كتابًا قائلًا هذا كتاب تاريخ مصر الحديث، على سبيل المثال، فكل ما كُتب في هذا الإطار لا يعدو كونه وجهة نظر لمؤلّفه أو مؤلّفيه الذين لهم بلا شك توجهاتهم الفكرية وانحيازاتهم الأيديولوجية والتي ستنعكس على مؤلّفاتهم مهما تحرّوا الدقة والموضوعية. وهو ما سينعكس بطريقة سلبية على العلم والمنهج والموضوعية.

ولقد كان هذا اللون من التفكير مناسبًا لفترات الحشد الأيديولوجي التي كانت الدولة تسعى فيها لتسييد وجهات نظرها، وحجب وجهات النظر الأخرى، وهو تفكير لم يعد مناسبًا في ظل الانفجار المعرفي وتعدد مصادر المعرفة وحق الإنسان فى تكوين وجهة نظره المتكاملة.

وما ذكرناه عن كتاب التاريخ الحديث، يمكن أن يكون نموذجًا تُقاس عليه مناهج اللغة والمواد الإنسانية كلّها، بل والمواد الطبيعية والرياضية في الوقت نفسه، ومن هنا فلا بد أن تكون لدينا مناهج مرنة تتعاطى مع فكرة أنّ المنهج العلمي والقدرة على استخدامه أهم من حفظ المعلومات الصماء، ويجب أن تعتمد المناهج على أنشطة ومشاهدات ونقاشات الطلاب وأبحاثهم وليس على الحفظ والإلقاء والتذكّر.

أين اختفت الأنشطة التربوية؟

لم تعد الأنشطة التربوية مجرد أدوات مساعدة للعملية التعليمية التي تتم داخل الصفوف الدراسية، بل أصبحت تلك الأنشطة جزءًا لا يتجزّأ من تكوين شخصية الطلاب والكشف عن ميولهم ومهاراتهم، ولا شك أنّ تنمية شخصيات التلاميذ وتعزيز قيمهم الإيجابية ومهاراتهم العملية هدف أساسي لتلك الأنشطة والتي ينبغي أن تتنوّع لتناسب الطلاب على اختلاف ميولهم ورغباتهم، فهناك الأنشطة العلمية وجماعات البحوث وهناك الأنشطة الأدبية والفنية والرياضية.. إلخ.

وكي تلبي تلك الأنشطة احتياجات التلاميذ، فالأمر يتطلّب تكلفة مالية كبيرة، حتى تتوفر الأفنية والمعامل والأدوات والمواد الخام المناسبة لكل نشاط، فضلًا عن العناصر القادرة على تدريب الطلاب.

هل نلحق بالوسائل التكنولوجية الحديثة؟

لا يمكن لتعليم حديث ومستقبلي أن يغفل أدوات التكنولوجيا الحديثة، والتي أصبحت واحدة من أهم أدوات العصر، والمجال لا يتسع لوصف المصادر المعرفية التي تحتويها تلك الوسائل وبكل لغات العالم.

الوسائل الحديثة لا تُغني بذاتها عن المعلّم الكفء والمنهج المتطوّر وطرق التدريس العصرية والأنشطة التربوية الفعالة

لقد شهدت مصر في الخمس سنوات الفائتة وفى ظل الوزير السابق تجربة لاستخدام "التابلت" فى العملية التعليمية ولكن كانت المشكلة هي تصوّر الوزير والقائمين على التجربة إمكانية أن يكون "التابلت" بديلًا عن المعلّم والمنهج والتقويم وغيرها من مفردات العملية التعليمية، وقد مرّت تلك التجربة ومضى الوزير وليس لدينا الآن تقرير واحد يخبر الرأي العام بما حدث في تلك التجربة، ومن هنا فلا بديل عن اعتبار أنّ تلك الوسائل الحديثة هي مجرّد معينات تعلُّم، ولا يمكن أن تُغني بذاتها عن المعلّم الكفء والمنهج المتطوّر وطرق التدريس العصرية والأنشطة التربوية الفعالة.

أهداف التعليم الأساسية وإرادة التطوير السياسية

لقد استقرّ مفكرو النهضة المصرية، ومنهم طه حسين وأحمد لطفي السيد وغيرهما، على أنّ للتعليم أربعة أهداف كبرى، هي:

الإعداد للثقافة بمعناها العصري؛ أو كيف يتفاعل خريج التعليم مع مختلف المصطلحات العصرية مثل (الدستور، البرلمان، الديمقراطية، الأحزاب السياسية، قضايا المرأة، البيئة، حقوق الإنسان، الغزو الثقافي، التراث، الفنون والآداب)؟.

وللأسف مناهج التعليم المصرية الحالية، لا تشجع على الفكر ولا تحرّض على الثقافة، طالما أنها تنتهي بامتحان يقيس ما حفظه التلاميذ عن ظهر قلب.

الإعداد للمواطنة؛ من نافلة القول إنّ التلاميذ ينتمون إلى بيئات مختلفة على المستوى الديني والاقتصادي والثقافي والمهني وغيرها من بيئات لكل منها ثقافتها وقيمها ومصطلحاتها، ومن هنا ظهرت المدرسة الحديثة التي تجمع مختلف التلاميذ من مختلف البيئات، حيث تصبح المدرسة بوتقة تنصهر فيها تلك العناصر ويتخلّق فيها التماسك والانتماء الوطني بحيث يصبح فى المقدّمة، ليتراجع أمامه الانتماء إلى الطائفة أو القبيلة إلى مرتبة تالية، وذلك عبر دراسة التاريخ والمعارك الوطنية، وعبر المنهج والنظام الموحّد، وعلى رأس كل ذلك "المجانية والإلزام التعليمي".

التعليم أصبح في واد والعلم في واد

الرؤية العلمية؛ واستخدام المنهج العلمي في النظر للظواهر الطبيعية والمشكلات الاجتماعية، ولعل فيما نلاحظه حولنا من شيوع العديد من الخرافات كالتداوي ببول الإبل ولسعات النحل وتفسير الكوارث الطبيعية أو البشرية على أنها غضب إلهي لشيوع الفساد هنا أو هناك.. كل ذلك يؤكد أنّ التعليم أصبح في واد، والعلم في واد آخر.

الإعداد المهني؛ ويتدرّج الإعداد المهني من إجادة القراءة والكتابة في السنوات الأولى للتعليم، وصولًا إلى تخريج الطبيب الحاذق والمهندس الماهر، وغيرهما، وفقًا للمعايير الدولية.

أخيرًا؛ لا يمكن لكل ما سبق أن يضع نظامنا التعليمي على طريق المستقبل دون توفر الإرادة السياسية.. تلك الإرادة التي سيتوقف عليها تدبير التكاليف اللازمة لمرتبات إنسانية للمعلمين وبناء المدارس المناسبة والكافية والإنفاق على باقي مفردات العملية التعليمة، كما سيترتب على وجود تلك الإرادة السياسية ربط التعليم بمشروع وطني شامل يرتبط فيه التعليمي بالثقافي والسياسي والتنموي، وبدون تلك الإرادة فسنظل في تلك الحلقة المفرغة التي ندور فيها منذ سنوات.


لقراءة: الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن