الأزمة السودانية والموقف الأميركي

اتبعت الإدارة الأميركية سياسة العصا والجزرة في تعاملها مع تطورات الشأن السوداني، وهو ما سيضع علامات استفهام حقيقي حول طبيعة الدور الأميركي في ما سيجري من تطورات خاصة، وظهور وزير الخارجية الأميركي، وكأنه مهندس الاتصالات واللقاءات التي جرت في جدة، وهو ما أعطى الفرصة للطرفين أن يلتقيا للتفاوض، ولو في نقاط محددة تعلقت في الأساس بهدن إنسانية كانت ولا تزال ضرورية لإفساح المجال لخطوة وقف إطلاق النار، والعمل على بناء مسار سياسي حقيقي يلي وقف إطلاق النار.

لكن الإشكالية الكبرى هي عدم صبر الجانب الأميركي، واتجاهه مباشرة إلى فرض بعض العقوبات، ولو التدريجية بعد تعليق المفاوضات تكتيكياً قبل استئنافها مؤخراً، وهو ما سيفرض مسارات مهمة جديدة ستعبر عن نفسها، وستضع خطوات استئناف المفاوضات على المحك، خاصة وأن تعليق العقوبات أعقبه اجتماعيْ «ايجاد» والقاهرة بهدف تأكيد الحضور الأفريقي الرئيس لدول الجوار والأطراف المعنية.

إلا أن ما سيجري في إطار الضغط الدولي من الآن فصاعداً خاصة الجانب الأميركي سيرتبط باتجاهات الأزمة ومساراتها المتوقعة، ومنها حدود التنسيق والعمل مع الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة و(إيجاد) والشركاء المحليين والدوليين، لحث طرفَي النزاع على التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وحماية المدنيين والسماح بوصول المساعدات الإنسانية.

استهدفت الإدارة الأميركية وضع القيود على التأشيرات لمسؤولين في الجانبين، إضافة إلى مسؤولين سابقين في نظام الرئيس المخلوع عمر البشير. فيما استهدفت العقوبات الاقتصادية العديد من الشركات السودانية في قطاعات الصناعة، والدفاع والتسلح، بينها شركة سودان ماستر تكنولوجي التي تدعم الجيش.

وبالنسبة إلى «قوات الدعم السريع»، فرضت واشنطن عقوبات على شركة الجنيد للمناجم والتي تدير مناجم ذهب عدة في إقليم دارفور، ولا تطال هذه العقوبات بشكل مباشر قائد الجيش السوداني، ولا قائد قوات الدعم السريع، مع توقع اتخاذ إجراءات أخرى لاستكمال ما يجري مع إدراك بعض مسؤولي الإدارة بأن بعض الأطراف الإقليمية تستطيع وضع ضغوط فعالة ومباشرة على طرفي النزاع، أكثر من الضغوط التي تمارسها العقوبات الأحادية الأميركية عليهما، مع الإقرار بأن أي عملية تفاوضية لا تقر العودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل 15 أبريل مع إشراك المدنيين السودانيين، ودعمهم لإنهاء هذه الحرب، ورسم طريق سياسي منضبط نحو المستقبل مع قيادة خطة طريق واضحة لإعادة العملية الانتقالية الديمقراطية، وتشكيل حكومة مدنية، لن تكون مجدية.

واللافت أنه - وبرغم كل الاتهامات للإدارة الأميركية بأن أولوياتها لا يعبر عنها الخطاب السياسي والإعلامي المعلن – فإن الإدارة ظلت تعلن الموقف، وضده في أكثر من تطور مع تتالي الاجتماعات الخاصة بالتطورات السودانية (لقاءات إيجاد – الاتحاد الأفريقي – مجلس السلم والأمن الأفريقي – اجتماع دول الجوار الإقليمي)، وبينما كانت تصر على دعم عملية الانتقال السلمي، وقوى الحرية والتغيير كانت «قيادة الأفريكوم» تطور علاقاتها مع القوات المسلحة، وتصرح في توجهاتها المعلنة - والتي اتضحت على أرض الواقع - في توسيع التعاون العسكري، بل ورفض تنظيم أي انتخابات في الوقت الحالي تخوفا من عودة «الإخوان» للحكم بصورة، أو بأخرى بل وراهنت الولايات المتحدة على إبعاد روسيا عن المشهد لإدراكها بأنها تسعى لتدشين قاعدة عسكرية بحرية في بورتسودان على البحر الأحمر، فضلًا عن انخراط شركة فاغنر في تجارة الذهب بعد أن تواجدت في ليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى. والواضح جليا - ومن ممارسات السياسة الأميركية في مناطق أفريقيا - أن الولايات المتحدة بالفعل لا تحتاج إلى الانتصار في المواجهات في السودان وغيرها بصورة نهائية، وما تحتاجه هو إغراق الآخرين في حالة عدم الانضباط، بحيث لا يمكن لهم إنتاج ما يكفي من القوة المباشرة لتحدي مخططاتها.

والسؤال ماذا عن مستقبل الموقف الأميركي؟ وما هو البديل المطروح؟ فمع انتفاء الهدف التي سعت الإدارة الأميركية للوصول إليه في مسارات التحرك تجاه الحل في السودان، تجمد الخط التدريجي الذي كان يقوم على التهدئة أولًا، والعمل وفق هدن متتالية قبل التوصل إلى وقف تدريجي، ومرحلي لإطلاق النار وبناء إجراءت ثقة، مع التوقع باستمرار العمل العسكري، والمواجهات الثنائية التي لا تزال قائمة، ويمكن أن تكون مطروحة في المدى القصير لحين التوصل إلى نقطة توازن في ظل افتقاد الإرادة السياسية لدى الجانبين لتقريب وجهات النظر برغم المجهودات المبذولة من كل الأطراف المعنية.

(الاتحاد)

يتم التصفح الآن