لكلّ سياسيٍّ الحق في المناورة، والسياسة هي فن الممكن، لكن وفق استراتيجية محددة، ومهما كان عنصر المفاجأة في التحرك فلا بد أن يخدم هدفاً أكبر يتفق معه كل واعٍ، وليس تقلبات ينتج عنها دمٌ ودمارٌ.
وهذا ما فعلته وتفعله «حماس» الآن، حيث التقلبات بتصريحاتها المتناقضة حيال حل الدولتين، والقبول بحدود 1967، ورغبتها في الانضواء تحت مظلة السلطة الفلسطينية. فعلت ذلك «حماس»، ومنذ السابع من أكتوبر، ثم عادت لتنفي أكثر من مرة.
أوائل الحرب في غزة قال إسماعيل هنية إنه مستعدٌ للجلوس على طاولة المفاوضات، والبحث في حل الدولتين، ثم «بردت» الحركة تلك التصريحات، وكأنها لم تكن، بل وشنت حملة تخوين على كل من علق على تصريحات هنية.
ثم خرج موسى أبو مرزوق في مقابلة مع «المونتور» قائلاً إن الحركة «تسعى إلى أن تكون جزءاً من منظمة التحرير الفلسطينية، وإنها سوف تحترم التزامات المنظمة»، وموحياً بأن «حماس» قد تعترف بإسرائيل.
ثم عاد أبو مرزوق قائلاً عبر «إكس» إن «هناك إساءة فهم» لتصريحاته، ومؤكداً أن «حماس» لا تعترف بشرعية الاحتلال الإسرائيلي، و«لا تقبل بالتنازل عن أي حق من حقوق شعبنا الفلسطيني، ونؤكد بأنَّ المقاومة مستمرة حتى التحرير والعودة».
والأسبوع الماضي فقط خرج قيادي «حماس» خليل الحية بمقابلة مع وكالة «الأسوشييتد برس» الأميركية قائلاً من إسطنبول: «إن (حماس) تريد الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية، برئاسة فصيل (فتح) المنافس، لتشكيل حكومة موحدة لغزة والضفة الغربية»، ومضيفاً أن «حماس» ستقبل «دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعودة اللاجئين الفلسطينيين وفقاً للقرارات الدولية، على طول حدود إسرائيل قبل عام 1967». وقال «إذا حدث ذلك، فإن الجناح العسكري للمجموعة سيحل».
وهذا يعني بالطبع اعترافاً بإسرائيل، وإلى الآن لم يصدر نفي من «حماس»، أو تبرير، ولا أعتقد أن لذلك قيمةً كون المقابلة بثت صوتاً وصورةً، ولم يعد لنفي «حماس» أي قيمة سوى عند المريدين والأتباع آيدلوجياً، وليس لهؤلاء قيمة بالمعادلة على الأرض.
وعليه فإن تناقضات «حماس» هذه باتت سمةً، ولو أنها سافرت للصين لحوار مع «فتح»، أو السلطة، وهو اللقاء التاسع عشر حتى الآن، وعقد قبله ما هو أهم في مكة المكرمة، لكن «حماس» انقلبت بعد ذلك بغزة، وألقت برجال السلطة من المباني، وباقي القصة معروف.
وقد يقول البعض إن ياسر عرفات فعل ذلك من قبل، أي التناقضات، والتصريحات وعكسها، وهذا صحيح وكلنا يعرف النتيجة، ومآلات الأحداث، والسؤال الآن هو هل نريد تجريب المجرب، أو تكرار ضياع الفرص؟
الوضع اليوم خطرٌ، حيث تغيرت الخرائط، ودمرت غزة، وقتل وشرد أهلها، وها هي «حماس» تحاول الآن الحفاظ على ما تبقى من سلطتها، وحماية من تبقى من قادتها، سواء داخلياً أو خارجياً، وليس القضية الفلسطينية.
ولذا فإنَّ اللعب على قبول الدولة الفلسطينية الآن، والانضواء تحت مظلة السلطة، لن يمنح «حماس» مساحةً للتحرك بقدر ما أنه يؤكد أنها حركة غير جادة، ويضعف موقفها التفاوضي، ومهما قيل ويقال.
(الشرق الأوسط)