بالطريقة ذاتها لجأت منصات التواصل الاجتماعي إلى ممارسة 'البانوبتيكية' داخل الفضاء الرقمي العربي، والعالمي المساند للقضايا العربية الحساسة خاصة القضية الفلسطينية، كنوع جديد من أشكال الاستبداد الرقمي، محولةً إياه – أي الفضاء الرقمي العربي- إلى سجن للمراقبة والمعاقبة (ميشيل فوكو)، حيث تُراقب الأجساد والتفاعلات وأدنى التحركات في الفضاء الرقمي، تسهر عليها العقول الإلكترونية والخوادم الضخمة.
انتقل الاستبداد الرقمي عبر الحذف والتقييد إلى استبداد موقعي في الأمكنة التي يحيى فيها المواطنون الشبكيون
وفي ذروة التفاعل العربي والعالمي مع تبعات "طوفان الأقصى"، عمدت منصات التواصل الاجتماعي العالمية (فايسبوك، X، أنستغرام..) إلى منع منشورات عدد من الناشطين والصحفيين والمؤثرين، الذين عمدوا إلى توثيق الحرب العشواء والإبادة الجماعية التي تقودها إسرائيل ضد المواطنين الفلسطينيين والتنديد بها، كما لجأت هذه المنصات خاصة "فايسبوك" إلى تقييد عدد كبير من الحسابات، وحذف آلاف الصفحات التي تظهر عنف الآلة الحربية الإسرائيلية، وإيغالها في إلحاق كل أشكال الضرر والعنف بالفلسطينيين نساءً وشيوخًا وأطفالًا.
وفي شكل من التشابك والتداخل بين الموقعي والرقمي أن انتقل الاستبداد الرقمي على المنصات عبر الحذف والتقييد، إلى استبداد موقعي في الأمكنة الطبيعية التي يحيى فيها المواطنون الشبكيون، عبر المتابعات القانونية للمهاجرين المناصرين للقضية الفلسطينية في أوروبا أو الفلسطينيين حاملي الجنسية الإسرائيلية، ممن تعاطفوا مع المحتوى الداعم للمقاومة بعلامات الإعجاب أو التعليق أو إعادة النشر، ولم تقتصر الملاحقة القانونية والتضييق الرقمي على الحسابات الخاصة بكتائب المقاومة وأعضاء المكتب السياسي للفصائل، بل تعداه ليشمل الحسابات الشخصية العربية لكل متفاعل ومتعاطف مع أهل غزّة ومندد بعدوان الاحتلال الإسرائيلي. في الوقت الذي سمحت به هذه المنصات، خاصة "فايسبوك"، بنشر سلسلة إعلانات وفيديوهات، ومنشورات باللغة العبرية تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وتدعو إلى إبادتهم فرادى وجماعات، ومنع الأكل والماء والكهرباء عنهم، والتصريح جهارًا بقتلهم، بل والإمعان في الإبادة وتجويعهم، وإلحاق أشد الضرر والألم بهم.
تشير المعطيات الميدانية إلى أنّ الاستبداد الرقمي داخل الفضاء الرقمي الفلسطيني والعربي ككل، والذي بدأ محتشمًا مع "الهبة الفلسطينية" في أكتوبر 2015، وتمظهر سلوكًا راسخًا فيما بعد تبعات "طوفان الأقصى"، إلى أنّ الأمر لا يتعلق فقط بمجرد تعاطف وتقارب بين وجهات نظر المنصات العالمية وقوات الاحتلال الإسرائيلية، بقدر ما هو عمل تعاوني ممأسس وممنهج وثقت له عدة محطات وتحركات رسمية، بدأت بتأسيس في العام 2015 وحدة "السايبر الإسرائيلية" التابعة للنيابة الإسرائيلية، وهي وحدة مسؤولة عن العلاقة مع وسائل التواصل الاجتماعي، وتتحدد وظيفتها في مراقبة المحتوى الرقمي ذي العلاقة مع المصالح الإسرائيلية، ثم إقرار اللجنة الوزارية الإسرائيلية للشؤون التشريعية في العام 2021 وبالإجماع مشروع قانون منع التحريض على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو قانون يسعى إلى تنظيم إزالة الحكومة للمحتوى أو تقييد الوصول إليه على المنصات الإلكترونية.
الفرصة سانحة أكثر من أي وقت مضى للتفكير في إمكانية إنشاء منصات عربية/عالمية
إضافة إلى ذلك لجأت إسرائيل إلى إنشاء هيئات/مجتمعات رقمية مثل "آكت آي إل- (Act.IL)" التي تأسست بالتعاون بين وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، وجامعة "رايخمان" والمجلس الأميركي/الإسرائيلي وجهات صهيونية أُخرى، و"4 آي إل - (4IL.)" التي أسّستها وزارة الخارجية الإسرائيلية، بهدف تنظيم وتعظيم عمليات تقديم الشكاوى "الشعبية" من طرف آلاف الناس والمتابعين الذين ينتشرون داخل المنصات الاجتماعية، ليمارسوا دور الذباب الإلكتروني، ويقوموا بعمليات تبليغ جماعية ضد المحتوى الفلسطيني، لإجبار شبكات التواصل الاجتماعي على حذفه (نديم ناشف).
لقد تسببت أشكال التعاطف العالمية ضد الحرب الإسرائيلية على غزّة، والتي قادها مناضلون رقميون من شتى أنحاء العالم، وما تبعها من أشكال التقييد والتعقب والمراقبة والعقاب، في تهاوي السردية التي رافقت صعود نجم شبكات التواصل الاجتماعي، باعتبارها منصات حرية تعبير وإبداء رأي وترافع، وإثارة مخاوف شتى بخصوص انقلابها أدوات استبداد رقمي ومراقبة وعقاب، الأمر الذي يجعل الفرصة سانحة وأكثر من أي وقت مضى، للتفكير في إمكانية إنشاء منصات عربية/عالمية على النحو الذي اتبعته الصين (تيك توك)، تلعب دورًا بديلًا للمنصات الاجتماعية الحالية التي صارت مُتحيّزة ومُؤدلجة، وهو الأمر الذي سيُعيد موقعة العرب ضمن خارطة القوى الرقمية العالمية.
(خاص "عروبة 22")