يصبـح في الوُسْع - في نطاق هـذا المفهوم للوحـدة بوصفها اتّـحادَ دولٍ - أن نعيد تَـكْييلَ مقـدارِ هـذه الدّولـة الوطنيّـة ومـدى وظيـفـيَّـتها في عمليّة الوحدة، أو مقدار ما يمكنها أن تبلُغَه في مضمارِ مراتِـب البناء والتّـنـزّلِ بمنزلة المادّة الأساس في الهندسة الاتّحاديّـة.
الدّول الوطنيّة العربيّة القائمة تحتاج إلى بناء جاهزيّتها لعملية الوحدة وإنضاج شرطها الذّاتيّ
ضمن هذه الرّؤية الرّحـبة إلى المسألة، فقط، يمكن تصحيح النّـظر إلى الدّولة الوطنيّـة ومكانتها من الوحـدة؛ وحينها لن تُـعْـتَبر عبئًا على الأمّـة وعلى وحدتها، بل سـتُـقْـرَأ بوصفها مادّةً من موادّ بناء تلك الوحـدة وشريكاً، كامل الشّـراكة، فيها. هل هـو، إذن، انتـقالٌ من ذمّ هـذه الدّولة والقَـدْح فيها إلى التّعـويل على أدوارها في توليد ديناميّة توحيديّـة مضادّة للدّيناميّـة الانقساميّـة السّائـدة؟ ربّـما كان الأمـرُ كذلك، نظـريًّا وعلى نحـوٍ عامّ، ما دامتِ الوحـدةُ تـتّخـذ، عندنا، شكلَ اتّحـادٍ؛ وما دام الأخيـرُ يُـبْنَى من مادّةٍ هي الدّول العربيّـة الملتـئـمة في إطارٍ كيانيّ اتّحاديّ جامع، وما دام الاتّحاد بينها قام على إرادتها الحـرّة وبالتّـوافُق عليه. لكن، عند التّدقيق، يتبيّـن أنّ الدّول الوطنيّـة العربيّة القائمة ليست أدواتٍ جاهـزةً، الآن، لعمليّـة الوحدة، بل تحتاج إلى بناء جاهـزيّـتها لذلك وإنضاج شرطها الذّاتيّ داخل كـلّ واحـدةٍ منها.
لسنا نعني بقولنا "غير جاهزة" أنّها غير مؤمنة بضرورة الوحـدة، ولا نعني ببناء الشّـرطِ الذّاتيّ حيازةَ الوعي بتلك الوحدة (لأنّ الحاجة إلى تلك الوحدة والوعي الجـمْعيّ بضرورتها قائمان في ما نحسب)، إنّما نعني بهما أمريْن اثـنين من دونهما لا إمكان لإقامة اتّحاد: أوّلهما؛ بناءُ الدّولة الوطنيّة ذاتها من الدّاخـل قصـد تأهيلها للانتقال إلى هذا الطّـور الجديد (الاتّحاد)؛ وثانيهما؛ صـوْغ مشروعٍ برنامجـيّ متكامل ومتدرّج الأهداف لكيانٍ اتّحاديّ جامع بين الدّول العربيّـة؛ وهما مهمّتان أخذ إنجازُهما من دول الجماعة الأوروبيّـة وقـتًا طويلًا وعملًا شاقًّا، ولكنّهما (الوقتُ والعمل) ممّا لم يكن لها مهْـرَبٌ من دفعهما كي تفـتح الطّـريق أمام الانتـقال من إطار "الجماعة الأوروبيّـة" إلى إطار "الاتّـحاد الأوروبـيّ".
أمّـا في المسألة الأولـى، فمن أبجديّـات كـلِّ بناءٍ أن تكـون أساساتُ البنـاء متيـنةً لِـيَـقْوى بها البناءُ ويصمُـد. ولمّـا كانتِ الدّول الوطنيّـةُ العربيّـة هي الدّعـامات والمداميك التي عليها سيـنهـض صـرْحُ الكيان الاتّـحاديّ، اقتضى ذلك أن تأخـذ هـذه الدّول نفسَـها بالبناء الاقتصاديّ والتّـنميّـة الاجتماعيّـة: التّعليميّـة والعلميّـة...إلخ، كـي تكون شريكًا فعّـالًا في التّـجربـة الوحـدويّـة و، قبل ذلك، كي تستجيب للمعايير التي تـوضَـع قواعـدَ للانتماء إلى الإطار الاتّـحاديّ. ويمكننا الاستعانـة بالخبرة الأوروبيّـة في إقامـة الاتّـحاد بين دول القارّة على قاعـدة البناء الدّاخـليّ لـكلّ دولة.
ينبغي أن يُبْذَل جهد كبير من أجل اجتراح مشروعٍ للاتّحاد ترعاه جهةٌ ما ويشارك فيه خبراء عرب
وأمّـا في المسألة الثّانيـة فإنّ جهـدًا كبيرًا ينبـغي أن يُـبْـذَل من أجل اجتراح مشروعٍ للاتّـحاد ترعاه جهـةٌ مّـا (جامعـة الدّول العربيّـة، مجموعة من الدّول...)، ويشارك فيه خبراء عـرب في الموضوع ليصير موضوعَ تَـداول بين القيادات والحكـومات والبرلمانـات والنّـخب الفكريّـة قبل التّـوافق عليه. وغنـيّ عن البيان أنّ معـدّل الثّـقة بأيّ مشروعٍ من هـذا القبيل يرتفع كلّما أَمَّـن المشروعُ هـذا لنفسه شرطيْـن: مشاركـة في إعداده وصـوْغه من ممـثِّلين عن البلاد العربيّـة جمـيعِـها؛ وكلّـما وقع توافـقٌ عليه يترجـم حريّـة الإرادة.
(خاص "عروبة 22")