بصمات

العلاقة بين الدين والسياسة في تونس (2/2)

أشرنا في الجزء الأول من هذه المقالة إلى مرجعية الإسلام السنّي المالكي في تونس، حتى إنّه يُمثّل دين الأغلبية، بل إنّه جزءٌ أساسيٌّ من هويتهم ولا ينفصل عن عروبتهم في الغالب الأعم، وكان هذا التجانس عنصر وحدة وقوة ومناعة للشعب والوطن، لنعرّج في هذا الجزء الثاني عند معالم أخرى من مميّزات العلاقة بين الدين والسياسية في الساحة التونسية.

العلاقة بين الدين والسياسة في تونس (2/2)

على عكس بعض الدول العربية لم تمارس الطرق الصوفية دورًا سياسيًا وطنيًا إيجابيًا كالحركة السنوسية في ليبيا أو المهدية في السودان، كما لم تجد الدعوة الوهابية القبول عند علماء الزيتونة. ورغم بروز الأحزاب الدينية بالصيغة الإخوانية منذ سنة 1928 في مصر وفي بعض الدول العربية (سوريا ابتداءً من سنة 1936 ــ 1937 والعراق ابتداءً من سنة 1949 وليبيا...)، فإنّ تونس لم تعرف حزبًا إخوانيًا أو حزبًا ذا مرجعية دينية - إسلامية طوال مرحلة التحرّر الوطني.

لم يبرز الخلاف بين النخبة السياسيّة حول قضايا ذات طابع ديني طوال فترة الاستعمار إلّا في سنة 1948 - على خلفية الصراع في فلسطين - بالعلاقة مع مسألة توظيف أفراد الأقلية اليهودية التونسية في الوظيفة العمومية، كما برز هذا الاختلاف أيضًا في النظر لطبيعة الحركة الصهيونية بين شق يعتبر أنّ الصراع في فلسطين هو ذو طبيعة دينية، وشق آخر يعتبره ذا طبيعة استعمارية عنصرية، ولم يكن الانتماء الحزبي أو النقابي محدّدًا في هذا التباين في وجهتَيّ النظر، حول تلك المسائل، بل إنّ كثيرًا من الزيتونيين انحازوا لموقف بورقيبة وصالح بن يوسف وفرحات حشاد، كما أنّ كثيرًا من النقابيين والدستوريين الجدد قد انحازوا للفهم الديني للمسألة (نموذج ابن عاشور والنيفر وابن القاضي، وهم في الأصل شيوخ).

اتخذت دولة الاستقلال جملةً من الإجراءات على علاقة بالإسلام الأمر الذي استفزّ قطاعًا واسعًا من "المتديّنين"

بعد حصول تونس على الاستقلال، بدأت مواقف القيادات الوطنية الماسكة للسلطة تتغيّر من الدين الإسلامي ومن علمائه، ومن ذلك إعادة تنظيم المؤسّسة الدينية وإخضاعها للمراقبة وتهميش قطاع واسع من "رجال الدين"، موازاة مع حجب امتيازات الكثير منهم، وفي المقابل تمّ "استيعاب" عدد كبير ومؤثّر من علماء الجامع الأعظم بل أعتُمد على بعضهم لتقديم رؤية اجتهادية للإسلام تختلف عمّا كان سائدًا.

كما اتخذت دولة الاستقلال جملةً من الإجراءات على علاقة بالإسلام من ذلك حلّ جمعية الأوقاف وكل مصالحها وممتلكاتها (1956-1957) وإصدار مجلة "الأحوال الشخصية" (1956)، وإلغاء التعليم الزيتوني (قانون 1958)، واعتماد الحساب الفلكي في تحديد تواريخ المناسبات الدينية بدل الرؤية بالعين المجرّدة كما جرت العادة، والتنظير للأمة التونسية والوحدة القومية، الأمر الذي استفزّ قطاعًا واسعًا من "المتديّنين" الذين اعتبروا تلك الإجراءات وبعض الممارسات منافيةً للدين ومسًّا بالمقدّسات، معتبرين أنّ إجراءات الإدارة الاستعمارية الفرنسية لم تجرؤ على اتخاذها، فكيف تفعل دولة بورقيبة ذلك وتونس دولة مستقلة؟.

رغم كل ذلك، لم تبرز في البلاد معارضة سياسية ذات مرجعية دينية لنظام بورقيبة إلّا في حدود ضيقة جدًا، كما هو الحال مع مظاهرة القيروان في سنة 1961.

ومع بداية التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عرفتها البلاد أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وهي التحوّلات نفسها التي عرفتها الكثير من البلدان العربية وخاصّة مصر بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967، مباشرةً بعد تولي محمد أنور السادات للسلطة، وفي ظل مناخ النكسة بدا التيار الإسلامي الإخواني، في العالم العربي، مطعّمًا ببعض أفكار الدعاة من غير العرب يكتسح الساحة العربية طارحًا "بدائل" سياسية دينية انطلاقًا من مصر بعد سماح السادات بإنشاء المنابر وبعودة القيادات الإخوانية المهجّرة في بلاد الخليج العربي تزامنًا مع الطفرة النفطية وحرب أكتوبر/تشرين الأول.

تفاعلت الساحة التونسية مع كل تلك التحوّلات وتمكنت مجموعة من الأفراد من تجارب وأصول جغرافية وثقافية مختلفة ومتباينة من تأسيس ما أُطلق عليه بـ"الجماعة الإسلامية" سنة 1972 التي انتهت بعقد المؤتمر التأسيسي الأول في 1979، وبفعل التطورات التي عرفتها الجماعة من ناحية والتطورات التي عرفتها البلاد عامة (من قبيل انشقاقات داخل حزب الدستور، الصراع بين الاتحاد العام التونسي للشغل والنظام 1978، عملية قفصة العسكرية 1980) برز تنظيم "الاتجاه الإسلامي" سنة 1981 الذي يُعتبر أول تنظيم سياسي تونسي يستند إلى مرجعية دينية.

حاول الاتجاه الإسلامي التكيّف مع بعض الأطروحات الديمقراطية لكن دون التخلي عن الأرضية الأيديولوجية

لقد كانت المرجعية الفكرية لهذه الجماعة "سلفية" في الأصل ولم تكن ابنة بيئتها، بل لم تنهل من رصيد الفكر الإصلاحي التونسي (الموقف من خير الدين نموذجًا)، لأنّها عادته وطعّمت سلفيّتها في ما بعد بمنتوج الفكر الإخواني ثم بما أنتجته تجربة الثورة الإيرانية.

وتحت ضغط الواقع السياسي والاجتماعي الوطني حاول الاتجاه الإسلامي التكيّف مع بعض الأطروحات الديمقراطية في البلاد بالتخلي، على مستوى الخطاب، عن بعض الأفكار والأطروحات جزئيًا، من قبيل مواقفه حول المرأة والتعدّدية، قبل تغيير اسم الحركة، لكن دون التخلي عن الأرضية الأيديولوجية المتمثلة في "الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي" التي ظلّت معتمدة من قبل، الحركة - الحزب حتى انعقاد مؤتمرها العلني الأول بعد الثورة.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن