بصمات

انحسار الدّين عن العالم أم عودة إليه؟

نعود، في لقائنا اليوم، إلى الفكرة المِحورية في حديث الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، عن المفارقة التي تبدو ملازمةً لحضور الدّين في الوعي الثقافي الغربي اليوم: فبالقدر الذي يبدو فيه، بكيفيةٍ متناميةٍ، أنّه لم تعد للدين منذ عصر الأنوار وطيلة القرنَيْن الماضيَيْن، المكانة المِحورية التي كانت له في وعي الإنسان الغربي وفي تنظيم سلوكه، بالقدر الذي نلمس فيه وجود "أمارات" تَشي بعكس ذلك.

انحسار الدّين عن العالم أم عودة إليه؟

الفكرة التي تقضي بتراجع الدين، أو بالأحرى بـ"انحسار الدين عن العالم" من جهة الوظيفة الأساسية التي يقوم بها أو تُراد له، لم تعد تمتلك الصلابة التي اكتسبتها على امتداد القرنَيْن الماضيَيْن خاصّة. والمُلاحظ من جهةٍ أولى، أنه مع تشكّل الفكر الفلسفي الحديث، على امتداد القرن السابع عشر وطيلة القرن الموالي بعد ذلك، تبلْورت بشأن الدين الفكرة التي تقضي بالتمايز بين مجالَيْ كلّ من الدين (وقد كان الأساس فيه والجذر هو الإيمان) والفلسفة (وقد كان المُعتمد فيها هو العقل وإعمال الفكر النقدي).

والمُلاحظ من جهةٍ ثانيةٍ هو أنّ التطورات التي عرفها الفكر الفلسفي في مساره في القرن التاسع عشر، وكذا انبثاق العلوم الإنسانية واستقلال علومٍ جديدةٍ بذاتها (علم الاجتماع، علم النفس، اللسانيات) قد قضت بأمرَيْن اثنَيْن في الوقت ذاته. أوّلهما أن ميلاد وتطوّر العلوم التي تتّصل بالفاعلية الاجتماعية للإنسان (الأنثروبولوجيا، علم النفس الاجتماعي، علوم اللسانيات) قد كشف عن قدرة هذه العلوم على النّهوض بوظيفة الإشباع الروحي التي كان الدّين يقوم بها - وبالتالي فإنّ الدين، وقد تمّ إدراك فاعليته ومغزاه في حياة الإنسان، قد أصبح غير ذي موضوع.

هل استطاع فكر الأنوار اعتبار العقل المرجعية العليا والمشرّع الأوحد في الاعتقاد وفي السلوك

وثاني الأمرَيْن، هو أنّ المسار المتوازي للفكر الفلسفي في قرن الثورة الصناعية أبان، من جانبٍ أول، عن قدرة الأنساق المثالية على استيعاب مهمّة الإشباع الروحي في مستوى آخر. وأظهر، من جانبٍ ثانٍ، قدرة الفكر الفلسفي على مجاوزة مستوى الاعتقاد الديني إلى مستوى جديدٍ مغاير، غدا فيه العلم والتطور العلمي هو البديل والسيد معًا - وذلك هو جوهر الفلسفات الوضعية في كلّ من فرنسا (أوغست كونت وتلامذته) ثم مع النزعات الاختبارية وفلسفات الوضعية المنطقية في بريطانيا.

لعلّ السؤال الأكبر هو ذاك الذي يتعلّق بمعرفة ما إذا كان الدين قد "خرج" بالفعل، في حقبة أو حقب ما من تطوّر الفكر الغربي، أم أنّه ظلّ ثاويًا مُختلفًا خلف أقنعة وستائر من أصناف شتّى. وفي عبارة أخرى: هل استطاع فكر الأنوار بما حمله من قيم، الإيمان بالعقل واعتباره المعيار الأوحد في السلوك والإنسان، واعتباره المرجعية العليا والمشرّع الأوحد في الاعتقاد وفي السلوك، أم أنّ الأمر غير ذلك؟.

هل نقول مع يورغن هابرماس، في حديثه عن روح الحداثة، إنّ الإنسان قد انتهى إلى حالٍ من الهلع أمام الصورة الجديدة الناشئة عن حلقات التحوّل التي حدثت في القرن الموالي لقرن الأنوار (على نحو ما ألمحنا إلى ذلك)؟ لندع هذا السؤال العسير مُعلّقًا ولنكتفِ باستحضار "أمارتَيْن" اثنَتَيْن تدلّان على الفزع المشار إليه من جهة، وتشيان بصدق الفكرة التي تقضي بأنّ "خروج الدّين من العالم" لم يتحقّق وأنّ هذا الأمر هو ما يفسر حضور المُفارقة التي يتحدّث عنها مارسيل غوشيه من جهةٍ ثانية. "أمارتان" اثنتان من جنسَيْن مختلفَيْن أو لنقل إنّهما تتجلّيان في مستويَيْن مختلفَيْن.

الوهم يقضي بانحسار الدّين وخروجه من العالم الغربي

تتجلّى "الأمارة" الأولى على تمكّن الدّين (في معنى الاعتقاد الراسخ والإيمان الذي لا يُطيق التبرير العقلي والاستدلال المنطقي) من العودة القوية، في أوساط علمية راقية وعلى لسان نخب جامعية على نحو ما نشاهده في فرنسا خاصة، إلى الفكرة التي تقضي بأنّ الحضارة الغربية تنهض على أساس مكوّنَيْن أساسيَيْن جوهريَيْن هما المسيحية واليهودية. نقول إنّ هذا التقرير هو الاعتقاد الذي ظلّ يحكم الفكر الغربي في كلّ الحقب السابقة على الحداثة وزمنها، قبل أن يسود الاعتقاد في الكلام عن السند الروحي للحضارة الغربية، عن الالتقاء بين الرافدَيْن الإغريقي واللاتيني (خارجًا عن الأثر الدّيني الحاسم، كما هو عليه الشأن في الاعتقاد المُغاير).

و"الأمارة" الثانية تتجلّى عندنا في الظاهرة المُتنامية في المُجتمعات الغربية، ظاهرة الإسلاموفوبيا من جهة، وظاهرة صعود وتنامي فكر اليمين المتطرّف سياسيًا واجتماعيًا معًا من جهةٍ ثانية.

الحقّ أنّ "الأمارتَيْن" تتقاطعان، وأنّ إحداهما تُلقي على فهم الأخرى أضواء كاشفة، والحقّ أنهما، في عبارةٍ أخرى، تتحدّثان كثيرًا عن الوهم الذي يقضي بانحسار الدّين وخروجه من العالم - في العالم الغربي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن