إذ وبالرغم من تواتر المؤشرات الإيجابية بخصوص أداء الاقتصاد العالمي خلال الربع الأخير من سنة 2023، وتراجع نسب التضخم واستقرارها، وعودة الطلب العالمي إلى منحاه الإيجابي، أدى تعاظم المخاطر السياسية والأمنية الناجمة عن تفجير عدد من النزاعات والحروب إلى عودة التوقعات المتشائمة بخصوص الأداء الاقتصادي العالمي.
مصر أكثر الدول العربية تأثرًا بما يجري في المنطقة ومبادلات الأردن قد تتأثر باضطراب سلاسل التوريد
فقد أشارت المؤسّسات المالية العالمية إلى قرب الدخول في دوامة تضخمية جديدة في حالة استمرار اضطراب سلاسل التوريد وارتفاع تكاليف النقل والشحن والتفريغ والتخزين والتأمين. وهو ما سوف ينعكس على أسعار عدد من المنتجات والسلع بما فيها المحروقات والمواد الغذائية والمواد الخام التي تثقل فاتورتها ميزانية عدد كبير من الدول العربية، ناهيك عن الخسائر المرتقبة جراء تراجع الطلب العالمي المرتقب على بعض الخدمات والسلع التي تُنتج أو تُصّنع في عدد من الدول العربية.
وفي هذا الصدد، نجد أنّ جمهورية مصر باتت أكثر الدول العربية تأثرًا بما يجري في المنطقة، حيث انخفضت عائداتها من قناة السويس بنسبة% 50 خلال الربع الأول من سنة 2024، وهو ما سوف يعمق عجز الموازنة ويقلّص احتياطاتها من النقد الأجنبي وقد يدفعها مرة إلى طرق أبواب الاستدانة.
إنّه الأثر السلبي نفسه المتوقع بالنسبة للأردن، فمبادلاته التي تمرّ نسبة كبيرة منها عبر ميناء العقبة ومضيق باب المندب، قد تتأثر باضطراب سلاسل التوريد، ما سيؤدي إلى رفع فاتورة الاستيراد، وتقليص قدرة المنتجات الأردنية على المنافسة. هذا الواقع نفسه سبق أن كبّد البلدين خسائر تجاوزت العشر مليارات دولار خلال الأشهر الاولى للعدوان على غزة، وهو رقمٌ مرشحٌ للارتفاع في ظل عدم ظهور أي بوادر تدُل على قرب انفراج الأزمة. ويترافق ذلك مع تواتر التوقعات بشأن انتقالها إلى قطاعات اقتصادية أخرى كالسياحة التي سجلت تراجعًا ملحوظًا في كلا البلدين.
الربح الظاهر للموانئ المغربية يُخفي في ثَناياه خسائر مرتقبة للاقتصاد المغربي
بالمقابل، هناك من يرى أنّ هذا الوضع قد يُشكل فرصة لدول عربية أخرى من أجل تحقيق مكاسب كبيرة، خاصّة بعد تغيير وجهة عدد كبير من شركات الملاحة التجارية الدولية لخطوطها البحرية، من البحر الأحمر نحو المحيط الأطلسي، مرورًا عبر رأس الرجاء الصالح ووصولًا إلى أوروبا عبر الموانئ الإسبانية والمغربية. وهو ما قد يكون سببًا في الاكتظاظ الراهن الذي تشهده بعض الموانئ المغربية الكبرى، كميناء طنجة المتوسط وميناء الدار البيضاء، والذي أسهم بشكل ملحوظ في تأخر تسليم الحاويات الموجهة نحو الداخل، كما تسبّب في موجة من الاحتجاجات بلغ صداها البرلمان المغربي، وذلك بعد تفاقم خسائر التجّار المغاربة.
وعلى الرغم من الربح الظاهر للموانئ المغربية، من خلال تضاعف عمليات المسافنة والشحن والتفريغ وإعادة التوجيه إلى الأسواق العالمية الكبرى، إلّا أن هذا الربح الجَلِيَّ يُخفي في ثَناياه خسائر مرتقبة للاقتصاد المغربي، الذي قد يتأثر بشدة جراء ارتفاع تكاليف النقل والتأمين واضطراب سلاسل التوريد، وهو سيناريو مشابه لما حصل السنة الماضية، وشكّل سببًا مباشرًا في تفاقم عجز الموازنة وانخفاض نسب النمو وتراجع الطلب على المنتجات والخدمات المغربية.
انفراج بعيد وأفق مسدود
لقد تسبّبت الاضطرابات الأخيرة، خاصّة تلك المرتبطة بتطور الأوضاع في منطقة البحر الأحمر بتراجع نمو الاقتصاد العالمي بأكثر من 1,3%، كما تسبّبت في تكبيد عدد من الدول العربية خسائر فادحة على مستوى الموارد والنفقات، فاقمت من الصعوبات التي تعاني منها اقتصادات الدول العربية المُنهكة من تعاقب الأزمات، والمفتقرة للآليات المشتركة لتدبير الأزمة الاقتصادية الراهنة. وهو ما دفع باتجاه التفكير في حلول أحادية قد تسهم في تخفيف هذا النزيف الاقتصادي الذي تشهده المنطقة العربية، وهي حلولٌ تراوحت في ظل غياب أي تنسيق عربي، بين الدعوة لتدخل عسكري مباشر، من أجل إيقاف الهجمات على السفن التجارية، والدعوة لتكثيف الضغط على إسرائيل من أجل إنهاء عدوانها على القطاع.
خيار الضغط على إسرائيل لوقف النار بعيد التحقق في ظل استمرار التشرذم العربي وتفضيل الحلول الأحادية العقيمة
وفي الوقت الذي يبدو فيه السيناريو الأول جِدُ مستبعد بالنظر لاحتمال تسببه في توسيع دائرة الحرب، وإدخال المنطقة في متاهات أمنية محفوفة بالمخاطر والتسبب بخسائر اقتصادية إضافية. يبقى الخيار الثاني، الداعي لتكثيف الضغط عبر القنوات العربية والغربية على إسرائيل من أجل وقف دائم لإطلاق النار وبدء المفاوضات، الحل الأكثر واقعية وبرغماتية في ظل تعاظم الدعوات الدولية لوقف العدوان، غير أنه يظل أيضًا خيارًا بعيد التحقق في ظل الأفق المسدود الذي ما لبثت تُنذر به دولة العدوان، وفي ظل استمرار التشرذم العربي وتفضيل الحلول الأحادية العقيمة.
(خاص "عروبة 22")