وجهات نظر

انحطاط العرب ودائرة الاستبداد الجهنمية

أرجع عدد من المفكرين العرب حالة الانحطاط التي عاشتها بلادنا في نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين إلى الاستعمار الغربي الذي سقطت معظم الدول العربية تحت وطأته في تلك الفترة، ورغم أنّ لهذا التحليل وجاهته إلا أنّ هناك سببًا آخر، فالتدهور الذي نخر في الجسد العربي كالسرطان فأوهنه وجعله فرسية سهلة للمستعمر يعود إلى "الاستبداد" الذي تفشى في أوطاننا ولم ننجح في التخلص منه بأي علاج.

انحطاط العرب ودائرة الاستبداد الجهنمية

في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" أشار المفكر العربي الإصلاحي عبد الرحمن الكواكبي إلى أنّ "الاسبتداد السياسي هو أصل الانحطاط في دول الشرق"، لافتًا إلى وجود أنواع آخرى من الاستبداد أدت في مجملها إلى ما وصلت إليه بلاد العرب في تلك الحقبة من انهيار وتخلّف، منها؛ "استبداد الجهل، واستبداد النفس، واستبداد المال.. إلخ".

وكما حمّل الكواكبي (1855-1902) "الحكومات المطلقة العنان" مسؤولية التردي والهوان، ذهب مجايله المفكر العربي اللبناني شكيب أرسلان إلى أنّ أكبر العوامل التي نتج عنها تقهقر المسلمين هو فساد أخلاق أمرائهم "ظن هؤلاء أنّ الأمة خُلقت لهم يفعلون بها ما يشاءون، وقد رسخ فيهم هذا الفكر حتى إذا حاول محاول أن يقيمهم على الجادَّة بطشوا به؛ عبرة لغيره".

ويرى أمير البيان شكيب أرسلان (1869- 1946) في كتابه "لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟" أنّ غياب العلماء والناصحين وعلو المتزلفين والمنافقين زاد من قمع هؤلاء الحكام وتجبّرهم، وبذلك عظمت المفاسد وضاعت مصالح الأمة وتنمّر عليها أعداؤها.

في أعقاب الخلاص من الاستعمار تشكّلت أنظمة لم يكن على أجندة أولوياتها بناء الدولة المدنية الديمقراطية

نالت بلادنا استقلالها من المحتل تباعًا حتى تحرّرت ولم يبقَ سوى فلسطين التي لا تزال تقبع تحت أسر الاحتلال الصهيوني، وبعد التحرر من المستعمر الأجنبي طفت على السطح بوادر نهضة في بعض الدول العربية، لكن رياح الاستبداد والتسلّط أطاحت بها سريعًا ليظلّ العرب في ذيل الأمم.

في أعقاب الخلاص من الاستعمار تشكّلت أنظمة لم يكن على أجندة أولوياتها بناء الدولة المدنية الديمقراطية، أحدث بعضها اختراقات متفاوتة في ملفات التعليم والصحة والصناعة والزراعة، لكن التجربة أثبتت باليقين أنّ أيّ تقدّم في ظل غياب آليات الشفافية والمحاسبة وغيرها من أسس الديمقراطية الحديثة ما هو إلا هو حرث في البحر.

"على الثورة أن تحقّق انتقالًا حقيقىًا وكاملًا إلى الديمقراطية السليمة.. جيلنا قدّم قيادات لفترة التحوّل الكبيرة، ولا بدّ لأجيال أخرى أن تتقدّم وأن تقود، وأهم من ذلك لا بد من وجود نظام ديمقراطى يكفل تجدّد القيادات المعبّرة دائمًا عن مطالب قوى الشعب"، هذا ما وصل إليه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بعد درس الهزيمة القاسية في يونيو/حزيران عام 1967.

وخلال كلمته في الذكرى الـ15 لثورة يوليو/تموز 1952، استعرض عبد الناصر ظروف وملابسات الهزيمة وسبل تجاوزها، وبعدها بأيام بدأ سلسلة اجتماعات بقادة وأركان نظامه دارت مناقشتها حول الأخطاء التي قادت إلى النكسة، وكان أبرزها باعتراف عبد الناصر؛ غياب الديمقراطية وعدم وجود معارضة حقيقية "إن لم نغيّر نظامنا الحالي سنمشي فى طريق مجهول ولن نعلم من يتسلّم البلد بعدنا".

تخلّف المجتمعات الشرقية يعود أساسًا إلى النظام الاستبدادي

ورغم الدرس القاسي ومراجعات الهزيمة المرّة، لم يتغيّر في مصر ولا في غيرها من الدول العربية شيء، وظلّت الأنظمة اللاحقة تتعامل مع الديمقراطية وآلياتها باعتبارها ترفًا لا يستحقّه المواطن.

في تسعينيات القرن الماضي شرح الدكتور إمام عبد الفتاح أستاذ الفلسفة المصري في كتابه "الطاغية.. دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي" سبل الخروج من "دائرة الاستبداد الجهنمية".

إمام ذهب في دراسته إلى أنّ تخلّف المجتمعات الشرقية يعود أساسًا إلى النظام الاستبدادي الذي ران على صدور الناس ردحًا طويلًا من الزمن "لا يكمن الحل في السلوك الأخلاقي الجيّد، أو التديّن الحقّ بقدر ما يكمن في ظهور الشخصية الإنسانية المتكاملة التي نالت جميع حقوقها السياسية كاملة غير منقوصة، واعترف المجتمع بقيمتها وكرامتها الإنسانية، فالأخلاق الجيّدة والتديّن الحقّ نتائج مترتبة على النظام السياسي الجيّد لا العكس".

وقدّم الدكتور إمام نماذج لطغاة العرب الذين ينفردون بخاصية أساسية في جميع العصور وهي أنهم لا يعترفون بالمساءلة ولا المحاسبة ولا الخضوع للرقابة من أي نوع، لافتًا إلى أنّ خاصية المحاسبة والمساءلة بالغة الأهمية لأنها "العلامة الحاسمة التي تفرّق بين عائلة الطغيان أيًا كان أفرادها، وبين الأنظمة الديمقراطية التي يحاسب فيها رئيس الدولة كأيّ فرد آخر".

الديمقراطية هي الضمانة الوحيدة القادرة على الحفاظ على استقرار الدول وتقدّمها ونهضتها

المفكّر المصري هاجم مصطلح "المستبد العادل" أو "الطاغية الصالح"، وقال: أظن علينا رفضه منذ البداية، إذا كانت هناك فكرة واحدة في النظرية السياسية لا خلاف عليها فهي أنّ الطغيان هو أسوأ أنواع الحكم وأكثرها فسادًا، لأنه نظام يستخدم السلطة استخدامًا فاسدا.

ويعتقد أنّ الطاغية مهما أنجز من أعمال ومهما أقام من بناء ورقي جميل في ظاهره فلا قيمة لأعماله، إذا يكفيه أنه دمّر الإنسان، متسائلًا "ماذا أفادت أعمال هتلر وموسوليني؟، وماذا كانت النتيجة سوى خراب بلديهما؟".

الديمقراطية إذن هي الضمانة الوحيدة القادرة على الحفاظ ليس على حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية فحسب، بل على استقرار الدول وتقدّمها ونهضتها، فبدونها يتحوّل أيّ إنجاز إلى بناء هش لا يمكنه الصمود أمام العواصف. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن