وجهات نظر

"معاداة السامية".. شروخ في عالم "ما بعد الحقيقة"

فَتَحَت احتجاجات واعتصامات طلاب الجامعات الأمريكية والفرنسية الأبواب أمام امتداد الظواهر الاحتجاجية إلى جامعات عديدة في العالم. وشكّلت هذه الظواهر الاحتجاجية أحد أبرز علامات القلق الجيلي الشاب إزاء عمليات الإبادة والتطهير العرقي التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة!.

مرجع هذا التمدد، ثورة مواقع التواصل الاجتماعي الرقمية، وتجاوز الإعلام التقليدي المنحاز لإسرائيل والذي يدعم مقولة "معادة السامية"، في مواجهة حركة الطلاب، وأيضًا العنف الذي استخدمته الشرطة إزاء الاعتصامات والتهديد بوقف الطلاب عن الدراسة، أو الفصل.

ما سبق أدى إلى شروخ في نسيج الأقنعة الليبرالية، حول حرية التعبير في الجامعات، وخاصة في ظل المواقف المتشددة لبعض أعضاء الكونجرس، ورفع بعضهم الخطاب المعادي لهذه الحرية الأساسية، بدعوى أنّ التظاهرات "معادية للسامية".

ما يحدث في الجامعات جزء معبّر عن التمايزات الجيلية في الدول الأكثر تقدّمًا ويحمل بشائر تغيّـر مستقبلي

ورصد موقع "مونت كارلو" الفرنسي الاتهامات التي وُجهت لطلاب معهد العلوم السياسية وجامعة السوربون المتضامنين مع الفلسطينيين، في ما يلي:

1- معاداة السامية.

2- الانقياد وراء حزب "فرنسا الأبية" الذي يحاول توظيف حركة الطلاب في نطاق حملة الانتخابات الأوروبية التي تبدأ الشهر المقبل، وتبنيه سياسة معاكسة لمواقفه العلمانية المعلنة لإرضاء الجيل الثالث من المهاجرين المسلمين.

3- انسياق اليسار الفرنسي الراديكالي وراء الإسلاميين.

4- تبني الطلاب الموضات الأمريكية وفكر "لووكيزم" الذي يراعي الأقليات العرقية والجنسية.

ما رصده موقع "مونت كارلو" كاشف لهيمنة الأفكار الموروثة عن "المحرقة"، وقد باتت جزءًا من جروح الضمير الغربي وخاصة الاتهام سابق التجهيز بـ"معاداة السامية" لأي انتقادات توجه إلى السياسة الكولونيالية الاستيطانية لإسرائيل.

صار هذا المصطلح، "معاداة السامية"، يمثّل تبريرًا ومسوغًا لوصم منتقدي السياسات الأمريكية والأوروبية الداعمة لإسرائيل، لا سيما من جانب التيار المسيحي الصهيوني في أمريكا، وأيضًا من جماعات الضغط في الكونجرس وخارجه في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وفي وسائل الإعلام التقليدي.

لا شك أنّ ما يحدث في الجامعات الأمريكية، وفي السوربون ومعهد العلوم السياسية، هو جزء معبّر عن التمايزات الجيلية الجديدة في الدول الأكثر تقدّمًا، ويحمل في أعطافه بشائر تغيّر مستقبلي!.. والسؤال هنا: "ما الذي تشير إليه هذه الاحتجاجات؟".

إنّ نظرة على بعض ما وراء هذه الانتفاضة الجيلية الجزئية الجديدة تشير إلى:

1- أثر الثورة الرقمية، وتراجع الإعلام التقليدي الغربي، نسبيًا وجزئيًا، الداعم لإسرائيل وسياساتها، ووصم الناقدين لها بمعاداة السامية، وذلك على نحو أثّر على بعض الأجيال الجديدة من أبناء أجيال (Z وألفا، وميتا) الذين يستهلكون وينتجون خطاباتهم الرقمية، والفيديوهات الوجيزة على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتحركون خلالها في التعبير الحر من القيود، بالحشد والتنظيم، واستمداد المعلومات، والبحث عنها على نحو أدى إلى انفصالهم عن أجيال ما بعد الحرب الباردة وقادتها من السياسيين.

2- أثر السرديات المشهدية المصوّرة، والفيلمية والفيديوهاتية الطلقة والومضية لحجم الدمار، وأعداد القتلى والجرحى على نحو يدحض السردية الإسرائيلية والمجموعات الرقمية التي تعمل لصياغة سردية مضادة للمقاومة، وتصف أفعالها في مواجهة الاحتلال بأنها من قبيل الأعمال الأرهابية، ووصف السلوك العدواني الإسرائيلي بأنه دفاع شرعي للمحتل عن النفس!.

3- أنّ حالة اليقظة الأخلاقية والسياسية لطلاب الجامعات الأمريكية والفرنسية، تمثّل جرحًا إزاء بنية الشعبوية القومية وشعاراتها التي ترفعها أحزاب اليمين، واليمين المتطرّف، والنزعة السياسية الحمائية، وكراهية الأجانب، الساعية من أجل تعبئة وحشد المواطنين العاديين وبعض شرائح الطبقة الوسطى، بهدف تحدي المؤسسات التمثيلية الليبرالية، والعداء للنخبوية السياسية والنطق باسم جماهير الشعب، بل والسعي للوصول إليها عبر الخطاب الشعبوي والآليات الانتخابية. هذه الانتفاضة الأخلاقية والإنسانوية والسياسية الجزئية، هي علامة على إمكانيات تطورها المستقبلي.

هناك إمكانية مستقبلية لتحدي رُهاب "معاداة السامية"

4- أنّ الحالة الأمريكية الأكثر تطورًا في عالمنا، وارءها النموذج الديمقراطي الذي جُرح بالمساس بحرية التعبير في الجامعات، وفي الوقت ذاته فإنّ مرجع الانتفاضات هو التعدد العرقي والثقافي والاجتماعي للمجتمع، وداخل الأوساط الطلابية في الجامعات الأمريكية، ومن ثم باتت هناك إمكانية مستقبلية لتحدي رُهاب "معاداة السامية"، والدعم الكامل لإسرائيل في سياساتها العدوانية في المنطقة.

5- أنّ الاعتصامات والتظاهرات في الجامعات الأمريكية وفي فرنسا، شكلت بعضًا من الشروخ الجزئية في عالم ما بعد الحقيقة (Post -Truth)  الذي تشكل في ظل تراجع تأثير الحقائق الموضوعية في تشكيل اتجاهات الرأي العام لصالح المشاعر الشخصية، والشحن العاطفي، والمعتقدات الشخصية، والدور الذي كانت - ولا تزال - تلعبه وظيفيًا وسائل الإعلام التقليدي المرئي والمسموع والمكتوب، وساعد على ذلك أيضًا طوفان الأكاذيب، والأخبار الزائفة، وتكوين الآراء السطحية، والتافهة حول القضايا العامة في عالمنا، ومجتمعاتنا على المستوى الكوني.

6- أنّ نظرةً على حالة اليقظة الأخلاقية الجيلية للطلاب إزاء الإبادة، والمذابح الإسرائيلية في قطاع غزّة، تشير إلى أنّ بعض شرائح الفئات الاجتماعية الوسطى والعليا في جامعات النخبة في أمريكا وفرنسا من الأجيال الجديدة للثورة الرقمية، يبحث عن المعلومات والسرديات ما وراء السرديات الذائعة لما بعد الحقيقة المسيطرة في خطابات اليمين واليمين المتطرّف، خصوصًا أنّ القاعدة الطلابية في جامعات النخبة في أمريكا وفرنسا تنتمي إلى بعض الفئات الميسورة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن