سبق لي، في حديث سابق، القول في هذه المسألة، كما سبق لي، في أحاديث سابقة من هذا المنبر، القول في الفروق التي أتبيّنها - في أحاديث الدارسين الغربيين في الإسلام وفي العالم الإسلامي - بين مقاربة العالم المتخصص في الدراسات الإسلامية (= الإسلامولوجيا) ومقاربة المنشغل بموضوع "الإسلام السياسي" والحركات الإسلامية في العالم العربي خاصة - من علماء السياسة، وجيل كيبل - كما بيّنت ذلك من قبل - ينتمي الى زمرتهم.
في هذا الصدد حرصتُ على التنبيه إلى الفروق الجوهرية بين الحديث عن "الإسلام في فرنسا"، والحديث المغاير معرفيًا وايديولوجيًا معًا، عن "الإسلام الفرنسي". فلكلا الحديثين مغزى ولكليهما مرجعيته المغايرة لمرجعية الآخر. ومرة أخرى أقول، منبهًا كذلك، أنني في قراءتي لكتاب كيبل لا أتحدث من موقع المحلل السياسي ولا أتحدث من وجهة نظر عالم السياسة – فلستُ بهذا ولا بذاك. ما يشغلُني هو تقصي كيفيات وأنماط تمثّل الوجود والفكر العربيين في الوعي الثقافي الغربي المعاصر من خلال ما يذيعه من يُعتبرون من "الخبراء" ومن يدخلون في عداد صانعي وموجّهي الرأي العام.
خدش شديد أصاب الصورة التي ترتسم في الوعي الثقافي الغربي لـ"إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"
ثلاث نقط يحرص كيبل على التأكيد عليها في حديثه أو، بالأحرى، في "الشكوى" التي يرفع عقيرته بها في الحديث عن الغرب.
النقطة الأولى، الأساسية في المنظور الذي يأخذ به جيل كيبل ونظراؤه، هي أنّ إسرائيل بعض من الغرب. فليس الغرب (الأوروبي والأمريكي معًا) هو المصدر والنشأة، بل إنّ الغرب هو الضامن لأمن وسلامة الكيان المستحدث بموجب قرار 1947 الدولي، ومن ثم حقها في الدفاع عما تعتبره مجالًا حيويًا لها - وهذا من جهة أولى. أما، من جهة ثانية، فهو تغذية الوعي الغربي الجماعي بأنّ ما لحق باليهود (من حيث أنهم بشر وقوم نالتهم من النازية كل أصناف التنكيل) بلغ - وهذا صحيح لا مراء فيه - مرتبة المحرقة والإبادة الجماعية باعتبارهم عرقًا او جنسًا أو ديانة، واعتبار أنّ إسرائيل تظلّ دومًا في موقف الطرف الضحية الذي لا تضمَّد جراحه إلا بإخلاء السبيل له لفعل ما يشاء حيث هو موجود، وتمكينه من القوة والدعم المباشرين والمتصلين.
وتعمل الآلية الإيديولوجية الضخمة في الغرب الأوروبي على تعميق الشعور بالذنب (فألمانيا النازية جزء من الغرب لا ينفصل، وفعل هتلر يلزم الغرب كله من الناحية الأخلاقية) وصناعة الوعي الذي يقضي بأنّ إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط بأكمله. ولا حاجة لقارئ كيبل (ونظرائه من "خبراء" الغرب) إلى التنبيه إلى ديمومة هذه الفكرة ومحوريّتها في فكره (لنرجع الى ما ألمحنا إليه، في الحلقة الأولى من كون كيبل يرى أنّ كلًّا من "حماس" و"التلموديين" يفكّر ويعمل بموجب المنطق نفسه).
بيد أنّ ما لا يملك كيبل إخفاءه أو التمويه فيه، هو أنّ خدشًا شديدًا قد أصاب الصورة التي ترتسم في الوعي الثقافي الغربي الجماعي لـ"إسرائيل بعض من الغرب - الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط". والاستتباع المنطقي لذلك أنّ تشوشًا ما يصيب صورة "الغرب" بأكمله.
والنقطة الثانية (وهي في تداخل شديد مع النقطة السابقة)، هي الحمولة السيكولوجية القوية التي يحملها النطق الولي لمحكمة العدل الدولية والذي يشي - في كل أشكال التفسير والتمويه - بإدانة إسرائيل – ومن باب الاستتباع المنطقي، كما أسلفنا، إدانة الغرب على النحو الذي يعي به ذاته - أي الصورة التي عمل على تكريسها في الوعي صنّاع الرأي و"الخبراء" ومالكو القنوات التلفزيونية العظمى، والتي يبيّن الشارع في عدد هائل من عواصم ومدن أوروبا (الغربية والشمالية معًا) رفضها والقول بنقيضها.
في دلالات حركة الجامعات الغربية يبلغ خطاب الوعي الخاطئ عند جيل كيبل غايته القصوى من التهافت والإسفاف
يطرح كيبل السؤال المنطقي والطبيعي الذي يطرحه عالم السياسة، أي ذاك الذي يتعلق بتقدير الجهات التي ستكون المستفيدة الفعلية من غداة "طوفان الأقصى" سياسيًا واقتصاديًا (والناظم بينها على كل ما هو معاداة للغرب). يفرد كيبل حيزًا للنظر في التركيب الذي يجمع بين الجهات المتنافرة سياسيًا والمتآلفة اقتصاديًا من دول بريكس+).
بيد أن ما يعنيه، أبعد من ذلكنّ هو الدلالة العميقة للإيديولوجيا التي تحكم "الجنوب الشامل" (South Global). في القول في هذه النقطة، وفي دلالات الحركة الشاملة التي تشهدها الجامعات الغربية (في أوروبا وأمريكا خاصة) يبلغ خطاب الوعي الخاطئ عند الرجل غايته القصوى من التهافت والإسفاف.
لقراءة الجزء الأول، الجزء الثاني
(خاص "عروبة 22")