بداية شهر أبريل/نيسان الماضي، نشرت مجلة "+ 972 ماغ" الإسرائيلية المستقلة، تحقيقًا مفصّلًا، أكدت فيه، انطلاقًا من مصادر عسكرية موثوقة، أنّ جيش الاحتلال لجأ عن قصد وبكثافة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بِنيّة استهداف المدنيين العزّل دون تمييز أو تبصّر مسبقين.
يبدأ المسلسل بتحديد الشريحة من السكان المراد استهدافها بالقصف، وهي العملية التي يتم اللجوء فيها لبرنامج يُطلَق عليه "لافاندر"، عبارة عن برنامج معلوماتي دقيق، يشتغل بواسطة تقنية "التعلّم العميق" باعتبارها تقنية ذكاء اصطناعي تطورية، مرنة وقادرة على تغيير الخوارزميات حسب حجم المعطيات التي يلتقطها البرنامج أو يقوم بجمعها.
يعطي برنامج "أين يوجد بابا" الأمر لتنفيذ ضربة لتصفية هدف محدّد حتى وإن ترتّب على ذلك تدمير عمارة أو حيّ بأكمله
يتم تزويد البرنامج إيّاه، بأحجام ضخمة من المعطيات الخام عن سكان غزّة، تكون قد تأتت لسلطة الاحتلال عبر نظام شامل في المراقبة، كفيل بتحديد مواصفات عناصر حركة "حماس" مثلّا، بناءً على استخداماتهم لهواتفهم النقالة، على تفاعلاتهم الإلكترونية، ثم على أماكن حلّهم وترحالهم الجغرافيين.
يقوم البرنامج على تحديد السلوك والمؤشرات الخاصة بعناصر حركة "حماس" والمقاومة بوجه عام، ثم يعمل على مقارنتها مع المؤشرات التي تم تجميعها له عن باقي سكان غزّة، إذ غالبية معطيات الـ2.3 مليون فلسطيني بغزّة موثّقة ومخزّنة في بنوك معطيات المخابرات والجيش. بالتالي، فانتماء المرء لمجموعة واتساب مع عنصر مشتبه فيه مثلًا، كافية وكفيلة لتصنيفه ضمن الفئة المستهدفة.
تتكفل خوارزميات الذكاء الاصطناعي بمنح كل فرد من سكان غزّة درجة تتراوح ما بين 1 إلى 100، تحدد منسوب احتمال الانتماء لحركة "حماس"، فتقوم أجهزة المخابرات بعد ذلك، بتحديد الدرجة الأدنى كي يتم إدراج الشخص بلائحة القتل، ويغدو بالتالي هدفًا يستوجب الاستهداف دون تمييز على أساس من سنّه أو جنسه.
عندما تبلغ العملية مرحلة تحديد مكان تواجد الهدف، يأتي دور البرنامج الثاني من برامج الذكاء الاصطناعي ويُدعى "أين يوجد بابا؟". وهو البرنامج الذي يوظف كل المعلومات والمعطيات المتوفرة لإطلاق إنذار "لقد دخل بابا المنزل"، فيعطي الأمر لتنفيذ الضربة لتصفية الهدف المحدّد، حتى وإن ترتب على ذلك تدمير عمارة أو حي بأكمله.
معنى ذلك أنّه عندما يقرر البرنامج إياه بأنّ شخصًا ما هو عضوٌ حالي أو سابق بحركة "حماس" أو متعاطف معها، فإنّ ذلك يُعتبر بمثابة أمر لاستهدافه، وهو الأمر الذي لا يحتاج إلا لعشرين دقيقة للتصديق عليه لينفَّذ بواسطة قنابل من شأن قوتها تسوية مباني وعمارات شاهقة بالأرض. إذا كان الصيد متواضعًا، فقنبلة "بليدة" تكفي، وإذا كان ثمينًا، فلا بد من قنبلة ذكية، إذ لا يمكن تبذير القنابل الذكية مثلًا لاستهداف شخص لا يمثّل خطرًا كبيرًا.
لا تمييز هنا بين الأهداف، اللهم إلا التمييز وفق أهمية المستهدَف والأضرار الجانبية التي تتم برمجة مستواها: 20 ضحية لشخص غير ذي أهمية كبرى، مقابل "التضحية" بالمئات من البشر لتصفية قيادي من الصف الأول أو الثاني. بالتالي، فغالبًا ما يذهب بجريرة تصفية شخص واحد، تدمير المنزل أو العمارة أو المساكن المجاورة، تدميرها بالكامل فوق رؤوس ساكنيها أو النازحين إليها. وقد يعمد إلى تدمير العديد من المنازل المتجاورة، بدعوى احتمال وجود المستهدَف بإحداها.
استعمال إسرائيل المكثّف لبرمجيات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي كافٍ لإدانتها بارتكاب جرائم إبادة
ولذلك، فمن أجل تصفية أيمن نوفل، قائد كتيبة وسط غزّة، تم تدمير ما يناهز 18 منزلًا وإبادة أكثر من 300 مدنيًا، لا بل إنّ الضحايا الـ35 الذين أُبيدوا منذ انطلاق العدوان على غزّة، تمت إبادتهم بهذه الطريقة. إنّها إبادة جماعية بواسطة حواسيب وبرمجيات وخوارزميات ذكاء اصطناعي تم تصميمها لهذا الغرض.
لا يحتاج الأمر إذن للجان تحقيق دولية للتأكد من ارتكاب إسرائيل لجرائم إبادة، إذ استعمالها المكثّف لبرمجيات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي كافٍ لإدانتها.
هل الأميركان على علمٍ بكل ذلك؟ بكل تأكيد. فقد عبّر الرئيس الأميركي مرارًا، عن "قلقه" المتزايد من "الضربات غير المتكافئة" التي تلجأ إليها إسرائيل، في إشارة واضحة إلى القتل بالجملة الذي يوظّف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
لقائل يقول: لمَ تحميل هذه التكنولوجيا وِزر طبيعة الاستعمال الذي تخضع له؟ وهذا صحيح، إلّا أنّ ميزة هذه البرمجيات تكمن في كونها صُمّمت خصيصًا بغرض التدمير. إنّها غدت في الحرب على غزّة، وسيلة وغاية في الآن ذاته.
(خاص "عروبة 22")