تقدير موقف

ماذا يتوقع لبنان من القمّة العربية؟

تنعقد بعد أيام القمّة العربية في البحرين وسط فوضى عارمة تعمّ المنطقة، من الحرب في غزّة إلى ليبيا والسودان، فضلًا عن أوضاع الدول التي تعيش نزاعات داخلية وخارجية نتيجة التوغل الإيراني فيها عبر البيئات المحلية وميليشيات مسلّحة قوّضت أُسُس الدولة، كلبنان واليمن وسوريا.

ماذا يتوقع لبنان من القمّة العربية؟

امام القمّة المقبلة ملفات كلّها مهمة وشائكة ويصعب التفاؤل بأن تتمكن من معالجتها أو اتخاذ موقف موحد منها. لا شك أنّ دولًا رئيسة في الجامعة العربية منخرطة أساسًا في محاولة وقف الحرب في غزّة وإنجاح مفاوضات الهدنة وإطلاق الرهائن، وتتطلع بالتوازي إلى اليوم التالي للحرب برؤى لتسوية الوضع في غزّة بخاصة وتسوية دائمة للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني بشراكة مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.

لن تُجمع قمّة البحرين إلا على العناوين العريضة لهذه الأزمة، ولن يُجمع القادة على رؤية واحدة سواءً لمستقبل غزّة في "اليوم التالي"، ولا لطبيعة السلام الشامل المنشود للنزاع والأمن الإقليمي للمنطقة، ولا للتعاون مع الأميركيين والحلفاء الغربيين. وما يصح على غزّة ينسحب على موقفهم من أوضاع الدول العربية الواقعة في الفلك الإيراني، وأبرزها حاليًا لبنان الذي يتعرّض لأزمات باتت تتعدى النظام وشكل الحكم لتهدد كيانه ووجوده. لا يمكن مقاربة الأوضاع في لبنان بمعزل عن محيطه، فالدول كلّها تتأثر بمحيطها القريب، وهو منذ نشأته ككيان سياسي في بداية القرن الماضي، وصدى الأحداث في جواره ترتدّ عليه. هذا إضافة إلى الخلافات الداخلية، مع تطلع بعض الأطراف شرقًا وآخرين غربًا.

التهديدات التي تواجه الأمن العربي تحتم على دول تحالف الاعتدال العربي أن تراجع موقفها من لبنان

الهدف من هذه السطور القول إنّ حرب غزّة الكارثية ستنتهي يومًا مع تفاعل العالم أجمع مع نتائجها السوداوية على الفلسطينيين وتداعياتها على أوضاع الإقليم برمته. الأمر لا ينسحب على لبنان المنخرط فيها مشاغلةً ومساندةً من جنوبه، ويعاني إلى جانبها وجانب أزماته المتعددة نزاعًا داخليًا بين أطرافه وخارجيًا مع الغرب وبخاصة الإتحاد الاوروبي والهيئة العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بشأن مشكلة النازحين السوريين التي قد تتفاقم لتتحوّل إلى مشكلة أمنية وسياسية تضاف إلى أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية. وهو أيضًا على خلاف مع عدد من الدول العربية، لا سيما الصديقة التاريخية له، بفعل أدوار وسياسات "حزب الله" وخلافاته مع هذه الدول.

على خلفية هذا المشهد، ماذا يتوقع لبنان من القمّة العربية المقبلة، وهو يواجه معضلات تعجز عن مواجهتها دول أكبر وأكثر مناعة؟

مع وجود "حزب الله" المعادي لمعظم الدول العربية، يصعب مطالبة العرب بسياسة موحّدة تُنقذ لبنان. تجارب هذا البلد مع جامعة الدول العربية مخيّبة، أقلّه منذ العام 1969 تاريخ بداية الأزمات الكيانية فيه، وكانت المواقف العربية منه بمعظمها عبارة إما عن ردود فعل على أحداث أكثر منها مواقف استراتيجية واضحة، وإما إنخراط مباشر أو غير مباشر مع فريق ضد آخر من الأفرقاء المحليين يفاقم المشكلة أكثر.

اليوم، لا نتوقع مفاجآت من الجامعة نفسها، إنما التهديدات التي تواجه الأمن العربي بعامة تحتم على ما يُسمّى بدول تحالف الاعتدال العربي والذي يضم دول الخليج ومصر والأردن والمغرب، أن تراجع موقفها من لبنان وبخاصة من أربع معضلات رئيسة تهدد كيانه:

المعضلة الأولى الأخطر والأكثر تأثيرًا على مسار الحياة السياسية وصناعة القرار، هي "حزب الله" كقوة عسكرية مسلّحة ومدرّبة بكفاءة عالية استحوذت على تمثيل الطائفة الشيعية. فأن يكون لحزب ما قوة تمثيلية ليس بالأمر المستغرب، إنما النافر والمؤثر في نظام مبني على تقاسم السلطة بين الطوائف هو مصادرة حزب واحد لقرار طائفة رئيسة، ما يمنحه قدرة تعطيل القرار السياسي والحياة السياسية والمؤسسات، وهذا ما يحصل منذ سنوات. يضاف إلى ذلك استخدام "حزب الله" سلاحه في الداخل لتحقيق أجندته السياسية، وتحوّله إلى قوة إقليمية عابرة للدولة منخرطة في محور إقليمي يخوض أكثر من نزاع أو حرب في المنطقة وتأتمر بأوامر جهة أجنبية هي إيران. ولا ننسى أنّ تنامي قوة هذا الحزب أدى إلى تعميق الشعور بالمظلومية السنّية وانتشار الفكر المتشدّد المتطرّف في البيئات المهمّشة لهذه الطائفة.

لا حلول للحروب في الإقليم دون دور عربي فاعل

المعضلة الثانية هي النزوح السوري إلى لبنان مع وجود ما لا يقل عن مليوني نازح في بلد لا يتعدى عدد سكانه 3.5 مليون نسمة. لا يمكن التغاضي عن المأساة الإنسانية التي يعيشها النازحون، لكنّ وجودهم يشكل معضلة يستعصي على لبنان واللبنانيين حلّها بمفردهم. فهذا الوجود متفلت لأنّ الدولة في البلد المضيف أعجز من أن تنظّمه، وله تداعيات سياسية وأمنية بفعل ما يخلقه من تجاذب سياسي حاد بين اللبنانيين، كما له تأثيرات اقتصادية في بلد يعاني أساسًا من أوضاع بائسة ونقصًا في الخدمات والبنى التحتية. يضاف إلى ذلك الأثر الديموغرافي الذي أيقظ مخاوف المسيحيين والشيعة كون غالبية النازحين هم من السنّة. في المحصلة، اللجوء السوري في لبنان بات قنبلة موقوتة لا ندري متى تنفجر.

المعضلة الثالثة هي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي تضم نحو 300 ألف لاجئ غالبيتهم من السنّة، وهي خارج أي سلطة، تعيش أوضاعًا اقتصادية واجتماعية بائسة وتحتضن أطرافًا ومنظمات دينية وسياسية وعسكرية ذات امتدادات استخبارية عدة، إضافة إلى عدد كبير من المطلوبين والخارجين على القانون.

المعضلة الرابعة هي تمدد حرب غزّة إلى لبنان مع انخراط "حزب الله" فيها، وإذا توسعت خارج جنوبه فذلك يعني نهاية محتمة لهذه الوطن على الصعد كافة.

معضلات لبنان الأربع تقابلها ميزات وخصوصية لبنانية تصب في الصالح العام العربي ولا يجوز إهدارها، سيّما مع ما تتطلع اليه دول الإعتدال العربية لمستقبل المنطقة. فعلى الرغم من كل الأزمات وديناميكيات التفكّك، لا يستطيع أحد إنكار تاريخ لبنان في العمل الديمقراطي وإتاحة الحريات المدنية والفردية، كما دوره كنافذة لدول الخليج على البحر المتوسط ومستشفى وجامعة العرب وعنوان للسياحة والإستثمار وجسر بين الثقافتين الغربية والشرقية. يمكن  للبنان استعادة هذه الأدوار إذا أتيحت له الفرصة لا سيّما مع الضمور النسبي للتجاذب الطائفي بين المسيحيين والمسلمين وتحوّله إلى تجاذب سياسي بين أفرقاء متعددي الطوائف، ومرونة اللبنانيين وقوة مجتمعه المدني كما قطاعه الخاص.

قناعة خاطئة بأنّ الديمقراطية ليست الحل المناسب لشعوب المنطقة في هذه المرحلة

ما من حلول جذرية لمشكلات لبنان وحروب المنطقة مستعرة، وجلّ ما يطلب اللبنانيون راهنًا هو أن تضغط دول الإعتدال العربي بكل قوة للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي ووقف الانهيار في البلاد أملًا بتجاوز هذه المرحلة المصيرية التي تمر بها المنطقة. ولا حلول للحروب في الإقليم دون دور عربي فاعل إلى جانب القوى الدولية الحليفة، يعيد القوى المتنازعة لأحجامها الحقيقية.

المطلوب من الإعتدال العربي في هذه القمة وما بعدها الابتعاد عن تجزئة الأزمات واجتراح الحلول الآنية السريعة الجاهزة وتلزيم المشكلات إلى الحكام المستبدين جراء قناعة خاطئة بأنّ الديمقراطية ليست الحل المناسب لشعوب المنطقة في هذه  المرحلة، ليضع رؤية واضحة لما يريده لمستقبل المنطقة وما تريد المنطقة وتتوقعه منه، يكون محورها العمل الجاد على دعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية في دولها لتقوم دول حديثة عمادها الحوكمة الصالحة والديمقراطية والتنمية. والإطار الإقليمي لتفعيل هذه الرؤية هو متابعة مسار تسوية نهائية وعادلة للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي تسمح بسلام شامل في المنطقة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن