يطرح فيلم الخيال العلمي الماتريكس تساؤلات حول العلاقة بين الذكاء الاصطناعي واستقلالية الإنسان. فهل كان "الماتريكس" مجرد فيلم خيال علمي ناجح، أو كان بمثابة نبوءة أورويلية لديستوبيا مستقبلية؟.
لم تشكّل ثلاثية "الماتريكس" ثورة سينمائية حقيقية فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى فتح باب كبير للنقاش العلمي والفلسفي حول ماهية الحقيقة في عصر الذكاء الاصطناعي. ويجوز لنا القول إنّ هذه الثلاثية وضعت حجر الأساس لنوع سينمائي رائد يعتمد على حبكات الذكاء الاصطناعي بشكل أساسي، إذ تناسلت مجموعة من الأعمال السينمائية التي استلهمت قصصها من عوالم الثلاثية، ونذكر كمثال على ذلك أفلام "تجاوز" و"العميل رقم 47" و"لوسي" و"الرمز الأصلي"، إلّا أنّ هذه الأعمال عرفت نجاحات متواضعة سواء لدى الجمهور أو النقاد.
كهف أفلاطون.. شخوص حقيقية أو ظلال خادعة؟
معلوم أنّ صنّاع "الماتريكس" استوحوا فكرتهم من أمثولة كهف أفلاطون حيث حاول العقل البشري تخطي حدود المعرفة سواء عن طريق تراقص الظلال على حائط الخيال، أو عبر ابتلاع حبة سحرية لسبر أغوار الحقائق الموازية، أو عن طريق التحديق في انعكاس المجهول على سطح مرآة سوداء.
في الوقت الذي وقف العالم مرتبكًا في مواجهة عدو مجهول سنة 2020، رفع بعض الظرفاء المشككين في مصداقية الفيروس الغامض شعارًا طريفًا ولكنه يحمل دلالة عميقة، حيث انتشرت صورة لمجموعة من المعارضين لقرار الحجر الصحي، تقول: "أنا أكره هذه الحلقة من المرآة السوداء"، في إشارة ضمنية إلى المسلسل النتفليكسي الشهير الذي يحمل العنوان نفسه. "المرآة السوداء" هي أنطولوجيا تستشرف واقعًا ديستوبيًا يتربص بالبشرية في زاوية التاريخ.
وفي هذا السياق جاءت إحدى حلقات المسلسل بعنوان "سأعود بعد قليل"، لتعالج قصة إنسانية تحكي الألم المرعب الذي يسببه فراق الأحبة. غير أنّ الطرح الدرامي لمعضلة الموت والفقد، كان مختلفًا تمامًا عما تعوّدنا عليه في أعمال فنية سابقة.
تدخل البطلة في دوامة مريرة من المشاعر السلبية بعد وفاة زوجها الشاب في حادث سير مروع، لتهتدي بعد فترة حداد كئيبة إلى برنامج ذكاء اصطناعي يعمل على تجميع كل المحتويات الرقمية للشخص المتوفى، ثم يقوم البرنامج بإعادة تدوير وصياغة هذا الأرشيف الرقمي، ليصنع منه نموذج "آفاتار" على هيئة إنسان افتراضي، حتى يتمكّن أحباؤه من التواصل معه.
تجد الأرملة الشابة في هذا التطبيق المريب وسيلة مثلى للفرار من الحزن ولوعة الفراق، لتقضي معظم وقتها في الحديث مع شبح الزوج المتوفى. تتسارع وتيرة الأحداث بشكل مخيف، حيث تقوم الأرملة بالاستعانة بنسخة مطوّرة من برنامج الذكاء الاصطناعي "لبث الروح" في "الآفاتار" ليتحوّل إلى كائن بشري من لحم ودم. قامت هذه الحلقة من "المرآة السوداء" بسبر أغوار أكثر المشاعر الانسانية تعقيدًا، إذ طالما شكلت المواجهة مع الموت تحديًا عاطفيًا يتطلب الكثير من الشجاعة. غير أنّ العديد منا يفشل في تقبل فاجعة فقدان الأحبة، لينزلق في غياهب الكآبة والحزن. فهل نلجأ مستقبلًا إلى تطبيقات تعيد تجسيد الجثث المتحلّلة؟.
تقنية الهولوغرام: أسئلة مفتوحة
قد تبدو هذه الفكرة ضربًا من الخيال. لكن حين نرى، مثلًا، تقنية الهولوجرام وهي خاصية تصميم الصور المجسّمة ثلاثية الأبعاد، وقد سبق لها أن "أحيت" شخصيات من الماضي، كالمطربة أم كلثوم التي قدّمت في السنوات الأخيرة سهرات فنية على مسارح القاهرة ودبي وعمان، أو الخطاب الذي وجهه المرحوم الشيخ زايد للمشاركين في قمّة المناخ (كوب 28)، وغيرهما من المشاهير الذين غادروا الحياة منذ عقود، لا نملك إلّا أن نتوجّس ريبة من هذه التقنية العجيبة.
انتشرت خلال الفترة الماضية مقاطع فيديو مريبة، يطلب فيها الناس من الذكاء الاصطناعي تصميم الجنة أو الجحيم أو بعض الشخصيات الدينية المقدّسة، بل قام أحد البرامج الذكية بتصوير الجنّة على هيئة حدائق غناء، تزيّن جنباتها الأنهار العذبة وتأثث فضاءها الرحب أفرشة حريرية وذهبية براقة. ويعكس هذا التصور الحرفي لما يجب أن تكون عليه الجنة، رغبة الإنسان الأزلية في الخلاص من رُعب العالم والالتحاق بمكان يسوده الأمن والسلام والاستقرار الروحي.
يجوز لنا القول إنّ تقنيات الذكاء الاصطناعي قد بدأت تتسلّل لكل مناحي الحياة البشرية، إذ نواجه اليوم، مثلًا، معضلة السرقات العلمية أو "البلاجيا" في شكلها المتحوّر، حيث يلجأ العديد من طلبة الدكتوراه والماجيستير إلى تحرير أوراقهم البحثية بالاستعانة بتقنية "شات جي بي تي"، وهو الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام حول مدى مصداقية البحث العلمي المعاصر.
تطال خطورة الذكاء الرقمي أيضًا مجالات حساسة مثل فبركة الصور الشخصية أو إنتاج مقاطع فيديو مزورة بغرض ابتزاز الأشخاص أو المؤسّسات، أو الإساءة إلى سمعة دول بعينها، الأمر الذي دفع بالشركات الكبرى الرائدة في عالم التكنولوجيا مثل "ميتا" و"مايكروسوفت" و"أدوبي" إلى توقيع معاهدة تنص على عدم استخدام أي من هذه الشركات لتقنيات الذكاء الاصطناعي بغرض التأثير على مجريات ونتائج انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2024، كما تمّ توقيع فصول هذه المعاهدة مطلع العام الجاري في مؤتمر ميونيخ للأمن، ويبدو أنّ الرغبة في كبح جماح الفبركة الرقمية يندرج ضمن تبعات ترويج مقطع صوتي مزوّر للرئيس الأمريكي جو بايدن يدعو فيه المواطنين إلى البقاء في منازلهم خلال الانتخابات الأولية في ولاية نيوهامبشر يناير/كانون الثاني الماضي.
فهل نحن بالفعل على مشارف عصر تكنولوجي جديد ستسيطر فيه الآلة الذكية على الإرادة البشرية؟ وهل من المعقول أن تؤثر صور أو مقاطع فيديو على القناعات السياسية والدينية للناخبين؟ وهل سيستبدل العرّافون ووسطاء التواصل مع الأرواح "لوحة الويجا" بألواح تطبيقات الذكاء الاصطناعي؟!.
(خاص "عروبة 22")