لكن هذه الحقيقة، رغم قوتها ونصاعتها، ليست قادرة بذاتها على أن تفعل فعلها المطلوب وأن تحقق نتيجتها المنطقية، أي إنهاء هذا الكيان العنصري المتوحش، وإنما لا بد أن نعمل عليها ونكافح بكل الوسائل وعلى كل الأصعدة، خصوصًا الصعيدين السياسي والدعائي بما في ذلك الاستعانة بمكونات القوة الناعمة من ثقافة وفن، لكي تبقى تلك الحقيقة ندية طازجة لا تخفت ولا تتوارى بل تتعمق أكثر وأكثر وتسكن نهائيًا في الضمير الإنساني، ومن ثم تستعصي على الخفوت والنسيان.
فأما الجانب الدعائي من كفاحنا فهو يتطلب عملًا دؤوبًا يستظهر ويذكّر على الدوام بحقيقة الطابع العنصري المتفوّق في الإجرام الذي ينهض عليه الكيان الصهيوني منذ لحظة خروجه للنور وإقامته بقوة الاغتصاب والإبادة على أرض فلسطين، ثم استمراره حتى الساعة متوسلًا بالوسائل الإجرامية نفسها التي توسّع فيها وتدحرج بها حتى هبط إلى درك ربما يخجل من الهبوط إليه أعتى المجرمين في كل التاريخ الإنساني الحديث.
أهمية اللجوء لوسائل القوة الناعمة لإبقاء جريمة الإبادة حيّة
هذه السطور تدعو بإلحاح إلى ما جاء في عنوانها، أي البدء فورًا في إقامة متحف - أو أكثر - يحفظ ويوثّق وقائع جريمة الإبادة بحق أهلنا في فلسطين ويمنع ذكرياتها الأليمة من التآكل والغرق في غياهب النسيان وأن يخلّد سيرة عشرات الآلاف من ضحاياها الأبرياء.
لقد سارت على هذا النهج كثير من شعوب الدنيا التي نجحت في تخليد ذكريات جرائم مروعة ارتُكبت، وحفرتها في ضمير الإنسانية - رغم أنّ نسبة كبيرة منها ربما كانت أقل بشاعة كثيرًا مما جرى لأهلنا في فلسطين -. فمثلًا جريمة قصف قرية "جرنيكا" الإسبانية بواسطة طائرات لقوات نازية ألمانية وفاشية إيطالية عام 1937، إسنادًا للفاشيين الإسبان بقيادة الجنرال فرانكو، هذه الجريمة سقط ضحيتها ما لا يزيد في أكثر التقديرات تضخمًا عن 800 قتيل من الفلاحين المدنيين الأبرياء، بينما بلغ عدد الشهداء والجرحى الذين سقطوا حتى الآن في محرقة غزّة نحو 120 ألفًا، طبقًا لأكثر التقديرات تواضعًا!!.
جريمة قرية "جرنيكا" خلّدها وأبقاها حيّة في الذاكرة الإنسانية حتى الآن، عمل فني عظيم، هذا العمل هو لوحة "جرنيكا" الشهيرة التي أبدعها بعد شهور قليلة من وقوع الجريمة، أهم رسامي القرن العشرين (بابلو بيكاسو) الذي تفخر إسبانيا بأنه من مواطنيها النجباء.
أما المثل الثاني الأكثر شيوعًا وشهرة فهو جريمة المحرقة النازية وضحاياها الذين احتكرهم الصهاينة وحصروهم في اليهود فقط، بينما الحقيقة أنّ هوية الضحايا كانت أوسع ومتنوعة جدًا، إذ شملت قائمة البشر الذين تعرضوا للقتل والإبادة في معسكرات النازي إلى جانب اليهود الأوروبيين، مئات الآلاف من الغجر والمعاقين والمثليين، إضافة إلى ملايين الأسرى من مواطني الاتحاد السوفيتي، وكذلك أكثر من مليون مواطن بولندي وعشرات الآلاف من الصرب والسولفنيين، وآلاف آخرين ممن اعتبر النازي أنهم "بشر منحطون" لا يستحقون الحياة - لاحظ الشبه الواصل حد التطابق بين اللغة والمفردات التي استخدمها النازيون وبين لغة الصهاينة في وصف الشعب الفلسطيني في غزّة -.
ضحايا محارق الكيان الصهيوني يستحقون أن تُخلّد ذكراهم وتوثّق سيرهم في متحف يكون قبلة لكل البشر
نعود إلى أهمية اللجوء لوسائل القوة الناعمة لإبقاء جريمة الإبادة حيّة ومحفورة في الذاكرة، فالمحرقة النازية "الهولوكوست" التي جعلها الصهاينة تبدو على عكس الحقيقة حكرًا على اليهود حصرًا، باتت أقرب للخلود بسبب مئات الأعمال الفنية - خصوصًا السينمائية - التي تناولتها، وإقامة عدد من المتاحف أضخمها وأهمها متحف الهولوكوست "فاد ياشيم" الذي أقامه الكيان الصهيوني غرب القدس الغربية المحتلة في العام 1953، كما أنّ هناك متحفًا للمحرقة في الولايات المتحدة الأمريكية ومثله في هولندا، وكلها تبدو معنية فقط بالضحايا اليهود ولا تحفل كثيرًا بغيرهم ممن تعرضوا للإبادة على يد النازيين.
إنّ قوافل شهدائنا الأبرار ضحايا حروب الإبادة والمحارق الجنونية التي يمارسها الكيان الصهيوني يستحقون - الآن الآن وليس غدًا - أن تُخلّد ذكراهم وأن توثّق سيرهم ووقائع الإجرام البشعة التي كانوا ضحاياها، في متحف يكون قبلة لكل البشر في أربعة أركان الدنيا، حتى لا يغيب عن أجيالنا المقبلة ولا تنسى عقولهم ووجدانهم أبدًا ما جرى على أرض فلسطين.
(خاص "عروبة 22")