إنها المهمة التي فشل فيها الفيلسوف هيجل، تلميذه وقرينه في الفكر الألماني، والذي قدّم لنا نسقًا فلسفيًا يبدو جذابًا من خارجه، لكن الغوص داخله ربما كشف لنا كيف أنه جاء واسعًا وفضفاضًا، مليئًا بالثقوب إلى الحد الذي سمح بتغلغل النزعتين: الشمولية والعنصرية إليه، وهو ما تجلى في تمجيده للدولة البروسية، وفي قدحه للأعراق والأديان غير الأوروبية خصوصًا العرق الأسود والدين الإسلامي.
في كتابه "الدين في حدود مجرد العقل"، يذهب كانط إلى أنّ فكرة الأخلاق الكونية بنت للعقل المجرّد، بما أنّ الكوني الوحيد فينا هو عقولنا. ومن ثم يؤسس نزعته الإنسانية على ثقته في الطبيعة البشرية، رافضًا أي حديث عن فسادها من أثر الخطيئة الأولى كما يصر الفكر المسيحي التقليدي، فلا يوجد إنسان ولد شريرًا بطبيعته، أو خيرًا بطبعه، بل يوجد فقط إمكان استعمال الحرية حسب مقتضيات الواجب الأخلاقي، حيث ينجح البعض، ويفشل البعض فيفتقدون الأخلاقية وعلى هذا لا تكون الخطيئة الأولى هي أصل الشر أو الخير، بل إرادة الإنسان هي المسؤولة عن خيره وشره. يعني ذلك أنّ الإنسان الذي يستعمل عقله بطريقة مثلى، وبحرية خالصة لا يشوبها قهر، ويلتزم بما ينتج عن هذا الاستعمال من نتائج، لن يكون فقط حرًا، بل مؤمنًا فاضلًا، وتلك هي غاية التنوير الحقيقي، أي مساعدة الإنسان على الانتقال من الإيمان النظامي/الكهنوتي إلى الإيمان الروحي/الحر.
إذا مورس العنف باسم العقيدة كان ذلك إيذانًا بتحوّل الدين إلى سياسة والإيمان إلى استبداد
وعلى الرغم من ذلك فإنّ كانط لا يجاري النزعة الإنسانية الملحدة، المعادية للألوهية بالضرورة، بل يرى في فكرة الله دعمًا لتشريعات البشر الأخلاقية، ولكن بشرطين أساسيين؛ أولهما أن لا تصير الفكرة ملكًا حصريًا لأية جماعة، بوصفها وحدها شعبًا لله، تملك حق الوصاية على أوامره، كما يذهب اليهود في تصوّرهم ليهوه كإله لبني إسرائيل وحدهم. وثانيهما أن يكون الدين ضرب من إيمان العقل المحض، لا يحتاج إلى ضمانات خارجية، ويمكن تبليغه لأي إنسان وفي كل مكان عن طريق الاقتناع الداخلي، وليس دينًا تاريخيًا مؤسسًا على وقائع انتقائية خارقة/معجزات، لا تتناسب ونضوج العقل البشري. أما إذا مورس العنف باسم العقيدة كان ذلك إيذانًا بتحوّل الدين إلى سياسة، والإيمان إلى استبداد روحي، وحلول الدولة محل العقل، والملوك بديلًا عن الإله في المطالبة بالحق المقدّس في الطاعة.
قادته نزعته الإنسانية ونظامه الأخلاقي الصارم إلى الدعوة لتأسيس نظام عالمي، لا يمكن أن ينشأ إلا إذا قمنا بتمديد الالتزام الأخلاقي للفرد كإنسان من مجرد الشعور بالمسؤولية إزاء الآخرين كأفراد في مجتمعه أو وطنه، إلى الشعور بالمسؤولية إزاء البشر جميعًا بغض النظر عن معتقداتهم وأوطانهم.
اقترح كانط في مقاله/كتابه الأثير "مشروع للسلام الدائم" 1794، ثنائيّتيّ الديمقراطية والسلام كأفضل قاعدتين للتعايش الإنساني. فالأولى تؤسّس لمنظومة تشريعية تسيّر الشؤون الداخلية للمجتمع الواحد على أساس الحرية وصولًا إلى الديمقراطية. والثانية تؤسّس لمنظومة قانونية تسيّر العلاقات بين الأمم على أساس العدالة وصولًا إلى السلام، مؤكدًا على أنه لا يمكن تحقيق الحرية داخل الأمم ما لم يتحقق السلام بين الأمم، والعكس.
التنوير الغربي تكاد تتحطم كل ادعاءاته بالكونية والإنسانية على مذبح نفاقه لإسرائيل
وهنا اقترح إنشاء هيئة دولية تقوم على مهمة السلام العالمي في موازاة عملية تطوير الديمقراطية الليبرالية في المجتمعات المحلية، محذرًا من أنّ تعامل هذه الهيئة مع أعضائها بغير عدالة سيقضي على السلام العالمي، مثلما يؤدي الخروج على سيادة القانون إلى تقويض الديمقراطية المحلية.
ومنذ نشأت هيئة الأمم المتحدة عام 1945 نُظر إليها باعتبارها الثمرة السياسية للتنوير الكانطي، لكن المفارقة المؤلمة أن حلّت المئوية الثالثة على ميلاده (1724 - 1804) في أبريل الماضي، فيما الهيئة الدولية التي دعا إليها تعيش أتعس لحظاتها، عاجزة ليس فقط عن الدفاع عن المظلومين والمقهورين في العالم، الذين باتت غزّة تمثّل رمزًا استثنائيا لهم، بل وعن الدفاع عن نفسها؛ بفعل نفاق الولايات المتحدة، القوة الأعظم المتحكمة في شؤونها، وأفول التنوير الغربي الذي تكاد تتحطم كل ادعاءاته بالكونية والإنسانية على مذبح نفاقه لإسرائيل، والسماح لها بالولوغ أكثر وأكثر في الدماء الفلسطينية الذكية، استلهامًا لأكثر المفاهيم الدينية سخافة "عقيدة الشعب المختار"، واستنادًا لأكثر الأفكار التوراتية خرافية "أرض الميعاد"، وأكثر الحركات السياسية عنصرية "الصهيونية".
(خاص "عروبة 22")