وفي أي قراءة للموازنة العامة للدولة يكون الأهم هو كشف أولوياتها، مع التأكيد على أنّ وحدة الموازنة العامة للدولة تبقى غائبة طالما استمرت موازنات شركات جهاز الخدمة الوطنية وجهاز أراضي القوات المسلحة والعديد من الهيئات خارج الموازنة العامة للدولة.
أدنى مستوى للإنفاق العام على التعليم كنسبة من الناتج
تقبع مصر في المركز 139 من أصل 140 دولة مدرجة في مؤشر جودة التعليم، وهذا الوضع الصادم يتطلب من الدولة إذا كان لديها أي إدراك لأهمية التعليم، أن تعطي أولوية للإنفاق العام على التعليم لتحسين جودته وكفاءة مخرجاته، وأن تلتزم بالدستور الذي يحدد نسبة 6% من الناتج كحد أدنى للإنفاق على التعليم، لكن مشروع الموازنة العامة للدولة في جدول التصنيف الوظيفي للمصروفات، يشير إلى أنّ مخصصات الإنفاق العام على التعليم 294,6 مليار جنيه، تعادل 1,7% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، ويا له من التزام بالدستور كفيل بتحسين جودة التعليم!!.
وتضيف الحكومة المصرية خلافًا للمتعارَف عليه في المالية العامة نظريًا وتطبيقيًا في كل بلدان العالم، ما تسميه حصة قطاع التعليم من سداد القروض القديمة وفوائدها ليرتفع الإنفاق العام على التعليم الجامعي وقبل الجامعي لنحو 858 مليار جنيه في موازنة 2024/2025. ورغم ذلك فإنه يبلغ نحو 5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي!
الإنفاق العام المتدني على الصحة وغياب أصول الأولويات
في سياق إهدار الأولويات نفسه، خصصت الحكومة نحو 200,2 مليار جنيه للإنفاق العام على الصحة، وهي تعادل نحو 1,2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، رغم أنّ الدستور يحدد نسبة 3% كحد أدنى للإنفاق العام على الصحة. والأنكى أنه تم إقرار قانون تنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية، والذي سيسمح بمنح امتياز إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية لمستثمرين مصريين وأجانب، والالتزام بالحفاظ على 25% كحد أدنى من العاملين بالمنشآت الصحية العامة، مع نقل الباقين لجهات أخرى - لا أدري ما هي تلك الجهات، وهل سيتم نقل الأطباء والممرضين لأعمال إدارية أو لوزارة الضمان مثلًا!! - إنه لعب حقيقي بالنار وعبث في منطقة يمكن أن تتحوّل لمصدر للاضطراب الذي لا تحتاجه الدولة المثقلة بالأزمات أصلًا.
عدد الأسرّة يبلغ 1,2 لكل ألف نسمة في مصر
والمطلوب هو تسهيل إجراءات تأسيس المستشفيات الخاصة الجديدة، وليس تداول المستشفيات العامة القائمة فعليًا بمنح امتياز إدارتها وتشغيلها للقطاع الخاص. والمطلوب أيضًا هو تطوير وتحديث إدارة المستشفيات العامة، وإنشاء المزيد منها وزيادة عدد الأسرة والأطباء وأعضاء الجهاز التمريضي ليماثل النسب العالمية بالنسبة لعدد السكان. وللعلم فإنّ عدد الأسرّة يبلغ 1,2 لكل ألف نسمة في مصر، مقارنةً بنحو 3 لكل ألف من السكان في المتوسط العالمي. إذن هناك حاجة للمزيد من المستشفيات والأسرّة من الدولة والقطاع الخاص، بدلًا من التداول البائس لما هو قائم فعليًا عبر منح إدارة المستشفيات الحكومية للقطاع الخاص المصري والأجنبي!
الأجور والمعاشات.. مزيد من تدهور القيمة الحقيقية
زادت أجور العاملين بالدولة بنسبة 16,4% لتبلغ 575 مليار جنيه في مشروع موازنة العام المالي 2024/2025، بينما تشير بيانات مشروع الموازنة إلى أنّ معدل التضخم بلغ 35,7% عام 2023/2024، وسوف يبلغ وفقًا للتوقعات الرسمية نحو 17,9% عام 2024/2025. وهذا يعني بوضوح أنّ القدرة الشرائية لأجور العاملين بالدولة، أي دخولهم الحقيقية، ستتراجع بشكل يدفع جانب منهم إلى مصاف الفقراء. ومن الضروري الإشارة إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي المتوقع عام 2024/2025 يبلغ نحو 17,1 تريليون جنيه، بزيادة نسبتها 44% على الناتج المحلي الإجمالي المقدّر للعام 2023/2024، بينما يبلغ معدل النمو المتوقع عام 2024/2025 نحو 4,2%، فكيف سيكون التضخم في حدود 17,9% فقط؟!
وفي السياق نفسه زادت المعاشات بنسبة 15% فقط، بما يعني حدوث تدهور حاد في القيمة الحقيقية للمعاشات أي قدرتها على شراء السلع والخدمات، في ظل معدل تضخم بلغ 35,7% وفقًا للبيانات الرسمية. ولم يتم ربط الحد الأدنى للمعاش بالحد الأدنى للأجر كضرورة للحياة والكرامة لأرباب المعاشات.
الاستثمارات العامة.. تكلفة الأبحاث والنمو المنتظر منها خارج المنطق!
تشكل الاستثمارات العامة رافعة رئيسية للنمو والتطور الاقتصادي وخلق الوظائف الجديدة، وتبلغ مخصصات الاستثمارات الحكومية نحو 495,8 مليار جنيه في موازنة 2024/2025، مقارنةً بنحو 333,9 مليار جنيه متوقعة فعليًا في العام المالي 2023/2024، بعد أن انخفضت كثيرًا عن المبلغ الذي كان مقدّرًا لها في تلك الموازنة والبالغ 586,7 مليار جنيه.
والملفت حقًا أنّ تكلفة الأبحاث والدراسات للمشروعات الاستثمارية في العام المالي 2023/2024 كانت نحو 11,3 مليار جنيه في مشروع الموازنة، ورغم انخفاض الاستثمارات المنفذة، فإنّ مخصصات الدراسات والأبحاث الخاصة بها ارتفعت إلى 26,7 مليار جنيه، بما يعادل نحو 8% من تكلفة تلك المشاريع الاستثمارية، في حين انها ينبغي ألا تتجاوز 1-2%!! ولا أدري من هي الجهة المحظوظة التي تحصل على كل تلك الأموال التي تتجاوز كل المعايير!
ويشير مشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2024/2025 إلى أنّ النمو المستهدَف للناتج المحلي الإجمالي يبلغ 4,2%. وهذا المعدل يصعب تحقيقه من خلال معدل الاستثمار الحالي الذي بلغ 12,8% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022/2023، والذي سيبلغ 16,2% عام 2024. ووفقًا لمعايير العائد بالأسعار الثابتة، فإنّ أقصى ما يمكن لهذا المعدل الاستثماري أن يحققه من نمو هو 2,5% تقريبًا.
خدمة وسداد الديون: 3441 مليار جنيه تهدد استدامة الموازنة
يشير مشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2024/2025، إلى أنّ مطلوبات فوائد وسداد الديون المحلية والخارجية تبلغ نحو 3441 مليار جنيه، بما يعادل 20,2% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع للعام المالي 2024/2025، وهذه المدفوعات الهائلة تستنزف الإيرادات العامة وتشكل عاملًا مهمًا في استمرار توليد وديمومة العجز في الموازنة العامة للدولة المصرية والاحتياج للاستدانة من الخارج بكل شروطها الاقتصادية والسياسية السلبية.
إجمالي الدين سوف يبلغ نحو 15 تريليون جنيه
وفي كل عام تدور العجلة الرهيبة للديون وتتفاقم، بينما الحكومة مستمرة في سياساتها وتتوسع في رفع أسعار مواد الوقود والطاقة، وفي الجباية الضريبية التي ارتفعت حصيلتها من 260,3 مليار جنيه عام 2013/2014، إلى 1530 مليار جنيه عام 2023/2024، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 2022 مليار جنيه في العام المالي 2024/2025 وفقًا لمشروع الموازنة الذي يشير أيضًا إلى أنّ نسبة إجمالي الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 88,2% في العام المالي 2024/2025، وبما أنّ الناتج سوف يبلغ نحو 17047 مليار جنيه في العام المذكور، فإنّ إجمالي الدين سوف يبلغ نحو 15 تريليون جنيه مصري ولا عزاء للحكومات والأجيال القادمة!.