وإذ كان عنف النظام فتح أبواب النزوح، فقد ساهمت في استمرار حركة النزوح قوى خارجية ومحلية أخرى تدخلت في سوريا وفي قائمتها روسيا وإيران ومليشيات الأخيرة، وجماعات إسلامية متطرّفة بينها "داعش" و"النصرة" وعصابات مسلّحة، انخرطت في الصراع، وتركت فيه بصماتها الدموية بما ارتكبته من أفعال وجرائم، زادت حركة نزوح السوريين هربًا من القتل والاعتقال والاختفاء القسري، وعززت عمليات التهجير المنظّم، مما رفع أعداد اللاجئين السوريين في العالم إلى ما يزيد عن عشرة ملايين نسمة، بينهم حوالى 5 ملايين موجودين في بلدان الجوار تركيا ولبنان والأردن والعراق بما فيه إقليم كردستان العراق.
ورغم أنّ العنف وتداعياته، كان السبب الأول والرئيس في النزوح، فإنّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي استجدت في سنوات العقد الأخير، احتلت مكانة مهمة في أسباب النزوح، وتزايد تأثيرها في السنوات الأخيرة، بحيث دفعت ترديات الحياة وصعوبات العيش مع البطالة والغلاء والفقر وانسداد آفاق المستقبل، وما تزال تدفع، مزيدًا من السوريين إلى مغادرة بلدهم إلى دول الجوار وغيرها.
العودة تتطلب توفير الظروف الأمنية المقبولة واحتياجات العائدين بما فيها استعادة أملاكهم وبيوتهم
لقد تعاملت دول الجوار في الفترة الأولى مع ملف النزوح بصورة مقبولة على اعتبارها مرحلة وتمر، ويعود النازحون إلى بلدهم، وتستعيد البلدان المضيفة وضعها السابق، غير أنه ومع مرور الوقت، وتواصل الصراع في سوريا وحولها، وارتفاع أعداد النازحين، وتزايد متطلبات وأعباء استمرار حياتهم في البلدان المضيفة بالتوازي مع تصاعد أزمات سياسية واقتصادية ومعاشية هزّت دول الجوار، ووسط تراجع حجم المساعدات الدولية، فقد صعدت قضية اللاجئين والنازحين السوريين في أولويات القضايا المطروحة في دول الجوار، وزاد في تصعيدها، أنّ أوساطًا سياسية واجتماعية محلية، جعلت قضية اللاجئين قضية سياسية في الفضائين الداخلي والخارجي، وصارت نقطة تجاذبات وتوافقات، وتحوّلت إلى أداة ضغط وابتزاز في العلاقة مع المجتمع الدولي ولا سيما مع الدول الأوروبية للحصول على مساعدات ومنح مقابل منع وصول اللاجئين إلى أوروبا.
وكان الأسوأ فيما طرأ على قضية اللاجئين السوريين في دول الجوار، ولا سيما تركيا ولبنان، أمرين، أولهما تطبيق سياسات رسمية متشددة في التعامل مع اللاجئين في موضوعات بينها السكن والإقامة والعمل والتعليم والصحة وصولًا إلى ممارسة سياسات ابتزاز وترهيب وعنف، وترحيل لاجئين خارج القانون، والأمر الثاني رفع وتيرة العنصرية المحلية ضد اللاجئين اعتمادًا على اتهامات وتلفيقات وأكاذيب تتعلق بعادات وتقاليد وسلوك اللاجئين وظروفهم وعلاقاتهم مع المجتمع المضيف في لبنان وتركيا البلدين اللذين اشتدت فيهما الحملة على اللاجئين إلى أقصى الحدود، وحوّلت حياة الأغلبية منهم إلى جحيم.
إنّ عودة النازحين واللاجئين إلى بلدهم وبيوتهم أمر بديهي، وهو حق منصوص عليه في القوانين الدولية والوطنية، بل إنّ العودة تُعتبر الحل الأمثل لكل مشاكل النازحين واللاجئين ونقطة البدء في تطبيع حياتهم، وحيث أنّ النزوح واللجوء كان في ظروف استثنائية، جرى فيها إجبار النازح واللاجئ على مغادرة بيته ووطنه بالإكراه، فإنّ العودة تتطلب الموافقة الحرّة للراغبين بها دون أي ضغط أو إكراه، ومن واجب الجهات المعنية بالعودة اتخاذ كل الترتيبات الضرورية، وبشكل خاص توفير الظروف الأمنية المقبولة، وأماكن السكن المناسبة، وتأمين احتياجات العائدين وأساسيات عيشهم بما فيها استعادة أملاكهم وبيوتهم.
نظام الأسد وحلفاؤه لا يرغبون في عودة أحد تماشيًا مع مخططات التغيير الديمغرافي
وللحق فإنّ دعوات عودة اللاجئين في لبنان وفي تركيا، لا تدقق في ضرورات العودة ومتطلباتها، حيث يتم ترحيل سوريين من تركيا إلى مناطق الشمال الغربي بصورة اعتباطية، ودون أي إجراءات قانونية، ويتم تركهم في مناطق قد لا يعرفونها، ولا يعرفون أحدًا فيها بعد أن فقدوا كل ما لديهم في عملية ترحيل محفوفة بالترهيب والإذلال، وهي حالة تقارب مسار ترحيل السوريين من لبنان، حيث يتم تسليمهم إلى نظام الأسد ليدخلوا نفقًا مجهولًا، لا يعرف كل من يدخله شيئًا عن مصيره، ولن يجد الخارجون من النفق أي ظروف تساعدهم في العودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم سواء كانت في مناطق سيطرة النظام أو غيرها.
نظام الأسد وحلفاؤه وأدواتهم، يعرفون أنهم أكثر الأطراف مسؤولية عن نزوح السوريين وتهجيرهم، ولا يرغبون في عودة أحد تماشيًا مع مخططات التغيير الديمغرافي، التي اشتغل عليها النظام وإيران والمليشيات التابعة لهما، مما يجعلهم أبعد عن التعامل بجدية مع عودة اللاجئين. لكن نظام الأسد بمشورة روسية أعلن موافقته على عودتهم عندما تتوفر الظروف، التي تعني بالنسبة إليه بدء التطبيع الإقليمي والدولي معه، وتجاوز كل جرائمه وتداعياتها، التي منها تدمير بيوت وممتلكات السوريين وتهجير أصحابها، وتحميل العالم مسؤولية إعادة إعمار سوريا التي دمّروها من أجل إعادة سكانها إليها، وهي خطة لا تغلق ملف الصراع في سوريا، ولا تتوصل إلى حل سياسي يتوافق مع الإرادة والقرارات الدولية لا سيما القرار 2254.
الدول العربية وافقت على عودة النظام إلى الجامعة العربية باعتبارها مرحلة أولى نحو حل سياسي يستند إلى القرار 2254
وكان من الطبيعي تكريس موقف دولي وعربي في مواجهة مساعي روسيا والنظام للتهرّب من استحقاقات الحل السياسي، بحيث ربطت الولايات المتحدة والدول الغربية تطبيع العلاقات مع نظام الأسد وإعادة إعمار سوريا بانخراط النظام في حل سياسي يستند إلى الإرادة الدولية والقرار 2254، وهو موقف تقاربه الدول العربية، التي وافقت على عودة النظام إلى الجامعة العربية ومؤسساتها باعتبارها مرحلة أولى نحو حل سياسي، يستند إلى الشرعية الدولية والقرار 2254 على أساس خطوة مقابل خطوة، والتي لا شك أنّ عودة اللاجئين والنازحين ستكون في صلب الخطوات.
ولعله لا يحتاج إلى تأكيد، أنّ الموقف الدولي العربي في توافقاته حول الحل السوري بمضمون القرار 2254، يتطلب تحركًا دوليًا وعربيًا مع الدول التي تثير موضوع وجود اللاجئين السوريين فيها والذهاب إلى تفاهمات معها، لا تتوافق فقط مع محتويات القانون الدولي فيما يخص اللاجئين، بل تراعي أنّ القضية تمثّل جانبًا من الحل السوري المتوافق عليه عالميًا، ويحتاج إلى دعم ومساندة، وليس التعرّض إلى تشتت المواقف، وخلق خلافات وصراعات لا يستفيد منها سوى نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، ويسوء بنتيجتها وضع اللاجئين الذي وصل حدود الكارثة، إن لم يكن صار فيها.
(خاص "عروبة 22")