إنّ أهم ما يمكن رصده من خلال هذه النكبات هو أنّنا انتقلنا من المواجهة الفعلية رغم هفواتها القاتلة، إلى التنديد والشجب وصولًا إلى الصمت الذي يصعب تحديد دلالاته، إذ لم نعد نخفي عجزنا، بل صرنا نعيش حالة العجز دون أن يشكّل ذلك فارقًا، فرفح اليوم هي عنوانٌ باذخٌ لعجزنا الثقافي والأخلاقي والسياسي.
غالبًا ما يُمثّل العجز تجربة يصعب القبول بها بما أنّ ماهيتها هي ماهية ظرفية تستعجل بالمُجمل عملية التجاوز، لكن ما نعيشه إثر تجربة الحرب الإسرائيلية على غزّة منذ أشهر هو تجربة تُعبّر عن استدامة العجز، فرفح اليوم تذكّرنا بهذا العجز المحتفى به عبر خلق جدالات وطنية هامشية تُنسينا عدم قدرتنا على مواجهة ما يجري، فقد غابت فعالية اجتماعات الجامعة العربية وقراراتها التنديدية والشجبية المعتادة، وانزوت إلى الصمت.
تمّ حشو مفهوم الوطنية بدلالات انغلاقية
إنّنا بهذا المقال نسائل المرحلة الراهنة وكيف تطبّعنا مع عجزنا للدرجة التي لم يعد فيها يحرجنا أو يقلقنا، هذا العجز الذي نتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية عنه، كأنّنا أمام تواطؤ عربي - بصرف النظر عن طبيعته الإرادية أو الإجبارية - لتسهيل تمرير المخطط الإسرائيلي والغربي على حد سواء، فقد ربطنا ذهنيًا استمرار العجز العربي باستمرار الإشكال الفلسطيني، وأنّه كيفما كانت النهاية التي ترسمها إسرائيل والغرب، فإنّها ستكون نهاية تغلق إشكالًا أثقل كاهل العرب وشكّل دومًا مسألة مساومة مقلقة لدى جل الدول العربية.
وكبديل عن هذا العجز تمّ حشو مفهوم الوطنية بدلالات انغلاقية متركزة على ذاتها، إذ تميل توجهات الدولة الوطنية نحو انخراط ذاتي يعزز تحقيق المصالح الداخلية ويهمش بالمقابل ما عدا ذلك. لهذا صارت الهوية الوطنية أهم مصلحة محدّدة لتوجهات الدولة العربية، وما دام أنّ أغلب هذه الدول تعاني من عدة نزعات داخلية وخارجية، فإنّها ستظل بالأساس منخرطة في التخلص من هذا الوحل الذاتي قبل التوجه خارجًا.
يمكننا الإشارة هنا إلى يعض النقط التي تساهم في تكريس هذا العجز العربي:
- رغم ارتفاع منسوب الدعم العالمي للقضية الفلسطينية خلال الأشهر الأخيرة، إلا أنّ إسرائيل تستعيد بشكل مستمر دور الضحية المستهدَفة من حركات إرهابية، لهذا تم استعادة خطاب المظلومية إثر هجوم المقاومة عليها وربط الاستهداف بمدينة رفح، لرفع ذريعة الدفاع عن النفس وتقليص حجم الدعم العالمي للقضية الفلسطينية وكذا تبرير الهجوم على رفح.
الهشاشة الاقتصادية والسياسية والأمنية تلعب دورًا كبيرًا في العجز العربي
- يبدو أنّ مخطط إسرائيل يتجه نحو فرض سيطرتها العسكرية بشكل كامل على غزّة بعد أن تدفع برموز المقاومة إلى الخارج، وهو ما يعدم بشكل رسمي فكرة "حل الدولتين"، ويُعيد الصراع إلى الطاولة وفق أجندة إسرائيلية مغايرة، كأنّنا أمام سبق زمني يجعل كل خطوة نحاول القيام بها لمواجهة إسرائيل تأتي متأخرة، وكأنّها تتقدّمنا دومًا أو أنّها تهيّئ الأرضية لنجاح مخططها قبل البدء بتنفيذه، مما يفقد المجهود العربي مدلوله وكذا جدواه وينقله من طاولة التفاوض إلى مقعد المتفرج.
- الهشاشة الاقتصادية والسياسية والأمنية لدى جل الدول العربية تلعب دورًا كبيرًا في هذا العجز العربي، وهو أمرٌ يتضح بشكل كبير بالنسبة لدول الجوار الفلسطيني التي في الغالب تسلك مبدأ الحوار تارة والتغافل عما يجري تارة أخرى لأجل استدامة وضعها وأمنها الداخلي كأولوية مقدّسة.
- عادة ما كان الخطاب يتناول السياق العربي بما هو سياق يحكمه توجهان متقابلان، توجه مجتمعي/شعبي وتوجه سلطوي، لكن يبدو أنّ راهن التوجه العام للمجتمع يسير وِفق توجه الدولة الوطنية، وهو توجّهٌ ينخرط بشكل معقّد في حيثيات المعيش اليومي وهموم وأولويات الدولة الوطنية بماهية الأرضية القادرة على تحقيق أي تغيير سواء كان خارجيًا أو داخليًا.
ــ إنّ عملية إخضاع المدنيين للعبة الرهان السياسي المتأرجح ما بين النصر والهزيمة، هو رهانٌ يخص الجانبين على حد سواء إسرائيل والمقاومة، فالنصر عند المقاومة يتأسّس على البقاء لهذا تحاول أن تؤكد كل مرة صمودها بهجوم مضاد، بغض النظر عن وحشية الرد الإسرائيلي المرتقب على المدنيين، ونصر إسرائيل يرتبط بفناء هذا الصمود المعلن، فيكون ردها أوحش ما يمكن تصوّره، لأنّ الرهان رغم غلافه السياسي/العسكري هو رهانٌ انفعاليٌ متمركزٌ على الذات واستمرارها من كلا الطرفين.
(خاص "عروبة 22")