ثقافة

غزّة.. نجمة المقاومة في مهرجان "كان"

أُسدل الستار على مهرجان "كان" في دورته السابعة والسبعين بتتويج مستحق للكاميرا الأميركية التي ظلت غائبة عن جائزة السعفة الذهبية منذ "شجرة الحياة" لتيرانس ماليك سنة 2011. حيث فاز المخرج شين بيكر بالذهب الفرنسي عن فيلمه المثير للجدل "أنورا". نذكر أيضًا قيام اللجنة التنظيمية للمهرجان بإحداث جائزة استثنائية مُنحت للمخرج الإيراني محمد رسلوف عن فيلمه "بذرة التين المقدسة"، وقد نجح رسلوف في الفرار إلى ألمانيا ثم الوصول إلى فرنسا لحضور فعاليات المهرجان، بعد أن أصدر النظام الإيراني حكمًا في حقه بالسجن لثمان سنوات.

غزّة.. نجمة المقاومة في مهرجان

لم يكن الإبداع الفني هو نجم "كان" الوحيد لهذا العام، بحيث غطت أحداث غزّة على الأجواء الاحتفالية وتصدرت الأزياء الاحتجاجية للنجمات عناوين الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي. فكيف كانت الموضة رمزًا للنضال ضد الظلم والإبادة على السجادة الحمراء؟.

لطالما شكلت الأزياء مظهرًا من مظاهر التعبير عن الذات الإنسانية في تمثّلاتها عن الطبيعة والفن والدين والتاريخ والحب والحرب، ووسيلة يُعبّر من خلالها الأفراد عن هوياتهم ومعتقداتهم وتطلعاتهم. وبعيدًا عن جمالياتها السطحية أو اهدافها التجارية، تمتلك الموضة القدرة على تحدي الضوابط الأخلاقية والتحفيز على النقاشات الفكرية والدفع بعجلة التغيير الاجتماعي.

حين تحمل قطعة القماش سلاح المقاومة

في السنوات الأخيرة، برزت الموضة كأداة قوية للاحتجاج، حيث قوضت الحدود التقليدية وساهمت في تحطيم السرديات الجامدة وساعدت على منح فرصة للأصوات المهمّشة. يجوز لنا القول إنّ للأزياء دورًا نضاليًا مهمًا في مسيرة الحركات الاحتجاجية المعاصرة، إذ تتجاوز الرسائل المبطنة للموضة فكرة الملابس كمظهر خارجي يؤدي مهامًا محدّدة، لتصبح وسيلة للمعارضة والتمكين والتضامن.

في جوهرها، تعمل الموضة كوسيلة احتجاج على تمظهرات الظلم واللاعدالة. فمن خلال التزيّن برموز أو شعارات أو أنماط تتحدى التقاليد السائدة، يثبت الأفراد هويتهم ويؤكدون حضورهم في الخطاب العام، كما يساهم فعل الاحتجاج عبر الأزياء في تسليط الضوء على قضايا القمع والتهميش خصوصًا لدى المجتمعات المنغلقة أو التي تعاني الإقصاء المُمنهج، والتي غالبًا ما يتم إسكات أصواتها أو تجاهلها.

نتذكر جميعًا كيف أُغرقت السوق الأميركية بقمصان داعمة لحركة "حياة السود مهمّة" الأيقونية، التي تحمل شعار "لا أستطيع التنفّس" والتي كانت نوعًا من الاحتجاج الرمزي ضد عنف الدولة البوليسية. نذكر أيضًا القبعات الوردية في مسيرة النساء اعتراضًا على فوز الرئيس السابق المثير للجدل دونالد ترامب، والذي سبق أن وصف النساء المعارضات لتصريحاته الميزوجينية بـ"النساء الكريهات"، فما كان من هؤلاء النسوة سوى ارتداء كنزات تحمل عبارة "نساء كريهات" في إشارة ضمنية إلى استهزائهن بتصريحات ترامب المسيئة، لتصبح الأزياء بذلك بيانًا مرئيًا يطالب بالاعتراف والمساءلة والسخرية السوداء من الأنظمة القمعية والأبوية وتحديًا جماليًا لقبح الاستبداد والسلطوية.

إضافة إلى ذلك، تُستخدم الموضة كوسيلة لاستعادة السرديات وتحدي هياكل السلطة المهيمنة. ومن خلال إعادة توظيف رموز القمع في أعمال المقاومة، يؤكد المحتجون على سلطتهم على أجسادهم وهوياتهم وانتماءاتهم العرقية والسياسية.

فعلى سبيل المثال، يفتخر الأميركيون من أصل أفريقي بأزياء وتسريحات شعر تحتفي بإرثهم الأفريقي الأسود وتعمل على إحياء تراثهم المهمّش الذي ظل يُنظر إليه باحتقار من طرف الرجل الأبيض، في تحدٍ لمعايير الجمال الأوروبية المركزية التي فُرضت على مجتمع السود منذ مئات السنين. وبالمثل، يصبح اعتماد الملابس التقليدية، مثل ملابس السكان الأصليين أو الكوفية والثوب الفلسطيني، شكلًا من أشكال المقاومة ضد المحو والاستيلاء الاستعماري والتطهير الثقافي المُمنهج.

حين تلغي الأزياء اختلاف وجهات القلب والنظر

من الملاحظ أنّ الأزياء تسهّل التعبئة الجماعية والتضامن داخل الحركات الاحتجاجية. فارتداء ملابس متشابهة يخلق إحساسًا بالوحدة والانتماء، ويخلق روابط بين الأفراد والجماعات الذين توحدهم مظالم وتطلعات مشتركة، سواء كان ذلك عبارة عن فستان على شكل كوفية ترتديه العارضة الأميركية من أصل فلسطيني بيلا حديد خلال فعاليات مهرجان "كان"، أو فستان سهرة حرصت كيت بلانشيت على أن يتناسق لوناه الأسود والأخضر مع لون السجادة الحمراء في حركة احتجاجية قوية تعترف بالكينونة الفلسطينية، أو قفاز حريري يحمل علم فلسطين لوّحت به المخرجة المغربية أسماء المدير في وجه مصوّري ومنظّمي مهرجان "كان" الذين مارسوا عنصرية مقيتة اتجاه مجموعة من النجوم غير الأوروبيين. وبذلك تصبح الأزياء قوة موحّدة تتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية والجغرافية.

وبالإضافة إلى أهميتها الرمزية، فإنّ الموضة كاحتجاج تحمل آثارًا اقتصادية وسياسية أيضًا، ويؤكد ذلك صعود حركات الموضة المستدامة والأخلاقية على الوعي المتزايد بالتكاليف البيئية والاجتماعية للأزياء أو ما أصبح يُعرف بالموضة السريعة. ومن خلال الدعوة إلى شفافية ممارسات العمل العادلة، يتحدى النشطاء الأنظمة الاستغلالية التي تقوم عليها صناعة الأزياء العالمية. وإضافة إلى ذلك، فإنّ ظهور حملات مقاطعة للناشطين في مجال الأزياء ضد العلامات التجارية المتواطئة في انتهاكات حقوق الإنسان أو التدهور البيئي يسلّط الضوء على قدرة نشاط المستهلكين على إحداث تغيير منهجي.

ومع ذلك، فإنّ الموضة كاحتجاج لا تخلو من الانتقادات والتناقضات، إذ يجادل النقاد بأنّ تسليع المعارضة يخفف من إمكاناتها الجذرية، ويختزل القضايا المعقدة إلى مجرد اتجاهات أو حيل تسويقية. بالإضافة إلى ذلك، يثير استغلال العلامات التجارية للأزياء السائدة لجماليات الاحتجاج أسئلة حول الأصالة والمساءلة: هل يمكن لقميص مزيّن بشعار نسوي أن يُجسّد حقًا القيم النسوية إذا كان يتم إنتاجه في مصانع مستغلة للعاملات اللواتي يتقاضين أجورًا زهيدةً؟

ختامًا، تمثّل الأزياء كأداة للاحتجاج اندماجًا ديناميكيًا بين الفن والسياسة والهوية. فمن خلال تسخير القوة التحويلية للملابس، يؤكد الأفراد على قدرتهم على التغيير، ويتحدون السرديات المهيمنة، ويعزّزون التضامن داخل الحركات الاجتماعية. وعلى الرغم من أنّ فعاليتها وأخلاقياتها قد تكون موضع خلاف، إلّا أنّه لا يمكن إنكار التأثير العميق الذي يمكن أن تحدثه الموضة كمحفز للتغيير الاجتماعي.

ومع استمرارنا في الإبحار في مشهد دائم التغيّر من النشاط والتعبير، ستظلّ الموضة بلا شك قوة فعّالة للمقاومة والصمود.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن