وصاحب ذلك التطور استخدام التطبيع مع المحيط العربي، وسيلة إسرائيلية – أمريكية لتصفية القضية الفلسطينية بكل مكوّناتها، وللترويج لإنشاء حلف عسكري إسرائيلي – عربي – أمريكي.
ترافق ذلك كلّه مع انغماس نتنياهو والمنظومة الإسرائيلية في أوهام التصفية إلى حد رفع نتنياهو، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، خريطة إسرائيل الكبرى التي تضمّ الضفة الغربية وقطاع غزة، والجولان المحتل، وذلك بالتوازي مع تولي الحكومة الفاشية مقاليد الأمور والبدء بنشاط استيطاني واسع وغير مسبوق في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
أكثر ما وتّر الحركة الصهيونية إنهيار الأسطورة التي صنعتها لنفسها بأنها جبارة وكلّية القدرة
جاءت أحداث السابع من أكتوبر، كرد فعل على كل هذه التطورات، لتعصف بها جميعًا، وتطيح بضربة واحدة بأوهام الحركة الصهيونية، والحكومة الإسرائيلية العنصرية بقرب تصفية قضية الشعب الفلسطيني برمتها.
وكان رد الفعل الإسرائيلي وحشيًا بصورة جنونية إذ شمل حتى اللحظة الانخراط في جرائم حرب متوازية، بما فيها الإبادة الجماعية، والعقوبات الجماعية إلى حد إستخدام التجويع كسلاح حرب، ومحاولة تنفيذ ثاني أكبر عملية تطهير عرقي، بعد النكبة، لسكان قطاع غزّة.
عنف رد الفعل الإسرائيلي وحدته اللامتناهية، عبّر ليس فقط عن مشاعر ونوايا الانتقام البهيمية لمنظومة، ومجتمع لم يعتد منذ تبلوره عام 1948 على تلقي هزائم، ولا على خوض معارك متكافئة، بل ومثّل أيضًا انعكاسًا لدرجة تغلغل العنصرية المطلقة في صفوفه، وعمق تبنيه لأيديولوجية نفي الآخرين، وخاصة الفلسطينيين، كبشر واحتقاره لقدراتهم، وذكائهم، وآمالهم ومشاعرهم، وحقوقهم.
لكن عنف رد الفعل أظهر كذلك مدى عمق الشعور بالاحباط والهزيمة لدى القيادة والمنظومة الإسرائيلية بسبب تبخر سراب اقترابها من لحظة حسم الصراع استراتيجيًا، بالتصفية، والتطبيع، والاستيطان المنفلت من عقاله.
وتفاقمت حدة العناد والعنف الوحشي ضد المدنيين الفلسطينيين، مع كل تطور جديد أظهر عودة القضية الفلسطينية لتصدّر المشهد السياسي العالمي، والنهوض العارم لحركات التضامن مع الشعب الفلسطيني التي لم يسبق لها مثيل منذ حركة مناهضة الحرب على فيتنام، والحملة العالمية لفرض العقوبات والمقاطعة على نظام الأبارتهايد والفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
إشارات مؤلمة ومخيبة للآمال بسبب استمرار بعض الدول العربية في التطبيع مع إسرائيل
ولعل أكثر ما آلم ووتّر الحركة الصهيونية إنهيار الأسطورة التي صنعتها لنفسها، بأنها جبارة وكلّية القدرة، وذات مناعة عصية على الكسر، منذ حرب حزيران أو ما سمته انسجامًا مع الرواية التوراتية، "حرب الأيام الستة" عندما هزمت في أقل من أربعة أيام ثلاثة جيوش عربية واحتلت مساحات من الأراضي تزيد عن ضعفي مساحتها، وقدمت للعالم الغربي الاستعماري نموذج "داود الصغير الماهر في مواجهة جوليات الجبار والفاشل".
هذه المرة، وفي يوم "طوفان الأقصى" كانت إسرائيل هي جوليات المكسور في مواجهة داود الفلسطيني.
وبعد ثمانية شهور من القصف الوحشي وتدمير ما يزيد على 75% من بيوت ومؤسسات غزّة واستشهاد ما لا يقل عن 45 ألف فلسطيني، واصلت صواريخ المقاومة الفلسطينية انهمارها على تل أبيب، واستمرت المقاومة في كل أرجاء غزّة من شمالها إلى جنوبها.
لكن لم تكن تلك الأسطورة الوحيدة التي انهارت في غضون الأشهر الماضية، بل انهارت أيضًا صورة إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في "الشرق البدائي المتخلّف"، وعقدة "أخلاقية الجيش الإسرائيلي" التي تبدو مواصلة نتنياهو التبجح بها مدعاة للسخرية وهو يتلوها وجيشه يقتل ما لا يقل عن سبعة عشر ألف طفل وعشرة آلاف إمرأة فلسطينية بوحشية جنوده، وأسلحته الأمريكية.
ومثّل التمزق الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، على وقع فشل المخططات السياسية والعسكرية، ومظاهر انشقاق مجموعات يهودية في أوروبا والولايات المتحدة عن المشروع الصهيوني، دوافع قلق عميقة واستفزاز خطير لسلوك المنظومة الإسرائيلية، التي خرجت عن طورها مرارًا وتكرارًا بتعميق الالتفاف حول الأفكار، والأقوال، والشعارات ذات المضمون الفاشي والعنصري الخطير، والانعزالية المرضية إلى درجة وصف بعض حلفائهم باللاسامية.
لكن الانهيارات لم تقتصر على المشهد الإسرائيلي بكل مكوناته، بل تعدتها إلى إشارات مؤلمة، ومخيبة للآمال لضعف الموقف الرسمي العربي والإسلامي في مقابل التأييد العربي والإسلامي الشعبي الجارف، وبسبب استمرار بعض الدول العربية في التطبيع مع إسرائيل رغم خرق الأخيرة للقوانين الدولية، وتنكرها لقرارات المحاكم الدولية.
لم تكن إسرائيل في حالة عزلة كما هي اليوم ولم ترَ في تاريخها هذا المستوى من التفتت الداخلي وضعف المناعة
شكّل قرار المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية كريم خان توجيه الاتهام لنتنياهو وغالانت بارتكاب جرائم الحرب، وقرارات محكمة العدل الدولية بالاشتباه بارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية، انعطافًا هامًا جدًا، وعززه أمر محكمة العدل الدولية بوقف الحرب الإسرائيلية على رفح وطلب إدخال المساعدات الإنسانية وضرورة سماح إسرائيل للجنة التحقيق في جريمة الإبادة الجماعية بالعمل، وهي جميعها أوامر سترفضها إسرائيل، ولكنها صارت تمهّد لشبكة عالمية واسعة لاستدعاء فرض العقوبات والمقاطعة على إسرائيل.
لم تكن إسرائيل، ومعها مؤيدوها في الولايات المتحدة، في حالة عزلة كما هي عليه اليوم، ولم ترَ في تاريخها هذا المستوى من التفتت الداخلي، وضعف المناعة.
إنها مرحلة إنهيار الأساطير الإسرائيلية التي انطلت لعقود على الكثيرين.
(خاص "عروبة 22")