من دون الدخول في الأبعاد العسكرية لعملية 7 أكتوبر، لا شك أنّ غالبية الدول ترى أنّ ردّ الفعل الإسرائيلي عليها المفرط في القوة هو غير مبرر ومن دون رؤية واقعية إلا التدمير والقتل المجاني والتهجير وجعل حياة السكان مستحيلة. من جهة أخرى، ومع أنّ القضية الفلسطينية استعادت بريقها إنما أتى ذلك بشكل يعاكس ما كانت تبغيه حركة "حماس" وتسعى إليه هي وحلفاؤها في محور الممانعة.
بعد ثمانية أشهر على اندلاع حرب غزّة، إنقلب التضامن والدعم غير المسبوقين لإسرائيل في بدايتها إلى إدانة رسمية وشعبية شاجبة ومستنكرة للأداء الإسرائيلي، إثر سقوط عشرات آلاف الضحايا من بين المدنيين واعتماد سياسة التدمير الممنهج وعن سابق تصور وتصميم. خسرت إسرائيل بكل معنى كلمة الخسارة أصدقاء وحلفاء تاريخيين، وسقطت مزاعمها بكونها واحة الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان ودولة القانون في المنطقة. إسرائيل اليوم مدانة من محكمة العدل الدولية ومن الجنائية الدولية، والأهم، من رأي عام كان متسامحًا لكنه انقلب عليها في أوروبا وأميركا المعتبرة الحلف الرئيس الإستراتيجي للدولة العبرية.
ينبغي قراءة مواقف أميركا الداعم دون منازع لإسرائيل بعد 7 أكتوبر من عدسة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة
هذه النتائج تحتم الغوص في عمق هذه المتغيّر وقراءته من منظور أميركي أولًا وأوروبي ثانيًا لمحاولة تبيان الجامع بينهما والمختلف، لعل هذا التمرين يساعد على فهم مآلات هذه الحرب ومستقبل السلام والتسوية في المنطقة.
لا بد من الإشارة إلى أنّ الخلافات بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية بشأن الحرب في غزّة، جاءت استكمالًا للتناقضات بين الطرفين منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية في نهاية ديسمبر 2022، حين وصفها الرئيس الأميركي جو بايدن بأنها "الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل"، ومن المرجح أن تستمر هذه الخلافات بين الطرفين حول أولويات كل منهما خلال الفترة المقبلة دون أن تطال بنية العلاقات الثنائية.
ينبغي قراءة مواقف أميركا الداعم الرئيس ودون منازع لإسرائيل بعد تعرضها لهزّة 7 أكتوبر من عدسة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. بالمباشر، الدعم العسكري المفتوح هو مصلحة أميركية اولًا قبل أن تكون إسرائيلية، إذ يهدف إلى مواجهة خصومها في الإقليم الساعين إلى إقتلاعها منه وتخريب مساعيها لتوسيع السلام وبناء علاقات إستراتيجية مع الشركاء والحلفاء.
منذ بدء الحرب، مارست واشنطن شبه وصاية سياسية على الحكومة الإسرائيلية ولعبت، وما تزال، دورًا رئيسًا في المفاوضات حتى وصلنا إلى ما أعلنه الرئيس بايدن من خطة لوقف الحرب وإطلاق الرهائن والإعمار مع هدف نهائي هو "حل الدولتين" الذي ترفضه حكومة نتنياهو.
الموقف الأميركي من حرب غزّة يمكن اختصاره بالتدريج بالآتي: وقف الحرب، إدخال المساعدات، القضاء على "حماس" كقوة عسكرية تحكم غزّة، تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية، توسيع الإتفاقات الإبراهيمية لا سيما التطبيع السعودي - الإسرائيلي، وبعدها الدخول في مسار "حل الدولتين" وهو الشرط السعودي للسير في التطبيع، وإعادة الإعمار.
إلى جانب الموقف الرسمي لا يجوز تجاهل الحراك الشبابي المناهض لإسرائيل في كبريات الجامعات في أكثر من مدينة أميركية، وهو يحاكي ما شهدته المدن الأوروبية وجامعاتها.
مخاصمة أوروبا للحكومة الإسرائيلية الراهنة بسبب تطرّفها الأعمى تواكبها مخاصمة مماثلة لـ"حماس"
في المقلب الأوروبي، يبدو الأمر أكثر تعقيدًا لأنّ الإتحاد يضم 27 دولة وليس من السهل وقوفها مجتمعة على رأي واحد، وهي دول ديمقراطية تخضع للرأي العام وتعدد الأحزاب والتيارات والنشطاء السياسيين. يجدر التمييز بين مواقف بعض الدول الأوروبية مثل إلمانيا والنمسا والمجر والتشك التي هي أقرب للسياسة الأميركية وأكثر تفهمًا للسياسة الإسرائيلية، ومواقف دول أوروبية أخرى تعتبر أنّ هجمات حركة "حماس" في 7 أكتوبر كانت مروعة وغير مبررة، لكنها ترى في الوقت عينه أنها لم تأتِ من فراغ بل نتيجة لعقود من الاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية.
ويندرج اعتراف إسبانيا وإيرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية في هذا السياق، كما موقف بعض الحكومات الأوروبية الداعم للمحكمة الجنائية الدولية في إدانتها للممارسات الإسرائيلية وعلى رأسها السويد وبلجيكا وفرنسا. إنّ اعتراف المزيد من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية قد يعمّق التباين مع الموقف الأميركي، الذي يرى أنّ تلك الدولة لا ينبغي أن تبصر النور إلا عن طريق تسوية تأتي نتيجة للتفاوض مع إسرائيل.
تجدر الإشارة هنا أنه لا ينبغي التسرّع والبناء على أنّ أوروبا تحوّلت إلى مخاصمة إسرائيل. أوروبا تخاصم الحكومة الإسرائيلية الراهنة بسبب تطرّفها الأعمى وما أدت إليه من تنامي التعصّب اليميني العنيف المسمّم للديمقراطية في إسرائيل، ولا تستطيع هضم هذا القتل المجاني للآلاف من الأبرياء. هذه المخاصمة تواكبها مخاصمة مماثلة لـ"حماس" إذ ترى أنها امتداد للإرهاب الديني ولا تشكل فقط خطرًا على إسرائيل بل على المنطقة والعالم.
يمكن اختصار الموقف الأوروبي الرسمي بالآتي:
أولًا، عامل العجلة أكثر من الأميركيين والإصرار على الضغط المباشر للبدء بمسار "حل الدولتين" قبل أي شيء فور وقف النار وإطلاق الرهائن.
ثانيًا، تؤيد أوروبا عقد مؤتمر دولي يؤدي للتسوية بينما معوقات كثيرة أمامه أولها أنّ إسرائيل نفسها، وهي المعنية الرئيس، مقبلة على تغيير سياسي يبدأ بحكومة جديدة، وقد تقدم على إجراء انتخابات عامة ما يعني أنّ المؤتمر ينبغي أن ينتظر نحو سنة لتتوضح نتائج التغيير المتوقع.
ثالثًا، كما الولايات المتحدة، ترفض أوروبا تركيز نتنياهو على الهدف العسكري في غياب كلي لأي خطة سياسية ذات مصداقية فيما يتعلق بفلسطين والعلاقات الإسرائيلية العربية عامة. وتتفق مع واشنطن أيضًا في رفض خطة الحكومة الإسرائيلية الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية على غزّة إلى أجل غير مسمى، والتمادي في تقويض السلطة الوطنية الفلسطينية. وبدأت كواشنطن تعي أنّ المضي في تفاهمات إبراهيم دون حل القضية الفلسطينية يبقى قنبلة موقوتة تنتظر 7 أكتوبر جديد لتنفجر في وجه العالم.
إما الانخراط في السلام والتنمية والإستقرار والحداثة وإما أن نعود للغرق في المشاريع الظلامية
مهما كانت التباينات بين الأميركيين والأوروبيين ونقاط التقارب بينهم، الصورة الكبرى تشير إلى تغيّر الغرب 180 درجة لصالح الحق الفلسطيني وقد عبّر عن ذلك موقف بايدن الدافع باتجاه "حل الدولتين"، ومواقف المسؤولين الأوروبيين وبعض الحكومات الأوروبية المؤيدة للفلسطينيين أو أقله الشاجبة للوحشية الإسرائيلية.
التباينات بين أوروبا وأميركا تفصيلية، ويبقى الأهم هو الإفادة من هذا التطور والبناء على ما سوف يتحقق مهما كان متواضعًا والتفكير نحو المستقبل وعدم الوقوع مجددًا في خطايا الماضي.
المنطقة على أبواب خيارات مصيرية، إما الانخراط في السلام والتنمية والإستقرار والحداثة بكل أبعادها، وإما أن نكرر الشيء نفسه ونعود للغرق في المشاريع الظلامية.
(خاص "عروبة 22")