تقدير موقف

القوة الحادة ومستقبل العالم (1/2)

منذ ظهور الكيانات السياسية سواء كانت قبائل أو إمارات أو امبراطوريات أو الدول الحديثة حاليًا، والاهتمام بالقوة وامتلاكها وفهم وإدراك أسرارها وطرق ومناهج تنميتها، هو الهمّ الأكبر للنخب السياسية والقيادات. ذلك أنّ القوة وبكل أبعادها ومكوناتها، هي التي تمكّن كيانًا سياسيًا ما، ليس في الاستمرار والتغلّب والقهر والبطش وحسب، وإنّما كذلك ترهيب الخصم وبثّ الرعب فيه وإرغامه على الانصياع بدون اللجوء إلى المواجهة؛ بل القوة كذلك، تجعل حتى الصديق أو الحليف، يثق ويحتمي بمن يملكها ويعرف كيف يستغلّها.

القوة الحادة ومستقبل العالم (1/2)

هناك أدبيات عبر التاريخ، حول مفهوم القوة وأشكالها وأنماطها وسبل بنائها؛ وخصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، بحيث برزت نظريات حول القوة من مدارس عدّة مثل الواقعية والسلوكية أو بصفة إجمالية من طرف التيار العقلاني، وفيما بعد نقد مقولات القوة من جانب التيار التأملي، الذي يتكوّن من النظرية النقدية المتأثّرة بالماركسية الجديدة والنظرية النسوية وما بعد الحداثة والبنائية والتيار ما بعد الاستعمارية ومنظورات إزالة الاستعمار عن المعرفة (Decolanization of Knowledge).

أنتج الفكر السياسي الأميركي عدة نظريات ومفاهيم حول القوة ومن ذلك "القوة الصلبة" و"القوة الناعمة"

لقد أدان التيار التأملي، ارتكاز المدرسة الواقعية بكل اتجاهاتها وفروعها النظرية، على المصلحة والقوة وإعطاء الأولوية للبُعد الأمني. كما يُعتبر تنظير الواقعية لإشكالية القوة، إقصاءً للبُعد الأخلاقي، وإخفاءً لمصالح النخب المهيمنة.

وقد أنتج الفكر السياسي الأميركي على الخصوص، عدة نظريات ومفاهيم حول القوة ومن ذلك القوة الصلبة التي تستند إلى البُعد العسكري والاقتصادي ومفهوم "القوة الناعمة" التي تقوم على استثمار البُعد الثقافي و"القيمي" والإعلامي وحتى الروحي في استمالة الشعوب والأفراد؛ ثم القوة الذكية التي تعني كفاءة توظيف القوة الصلبة أو الناعمة في السياق المناسب. وهناك القوة الحادة التي نظر إليها كريستوف والكر وجسيكا لولدفيغ، في مقال لهما حول "معنى القوة الحادة: مشروع الدولة السلطوية في التأثير"، مع التركيز على روسيا والصين، ونُشر المقال في مجلة "شؤون خارجية" في سنة 2017.

يُقصد بالقوة الحادة قدرة الفاعل الدولي على "اختراق" دولة معينة أو تنظيم ما وإحداث خلل في الكيان المستهدف

يُقصد بالقوة الحادة (Sharp power)، قدرة الفاعل الدولي وكفاءته على "اختراق" دولة معينة أو تنظيم ما، وإحداث خلل في الكيان المستهدف، وذلك من خلال عدة أدوات ومنها التضليل الإعلامي ونشر الأخبار الكاذبة والتدخل في الانتخابات وتوجيهها والقيام باغتيالات سياسية، وإحداث أزمات اقتصادية واجتماعية، وإنهاك معنويات شعب ما، وقصف العقول وخلق الانقسامات داخل المجتمع وإثارة النعرات الطائفية والدينية وغير ذلك من آليات التقويض والإنهاك وإضعاف معنويات الشعوب والتشكيك في مصداقية قياداتها.

ومن المعلوم أنّ جوزيف ناي، يتّهم الصين باعتماد هذا النهج من القوة الحادة، في اختراق بعض المجتمعات ومن ذلك خلق انقسام وفتنة بين أستراليا ونيوزيلندا، وتدريب صحافيين من أمريكا الجنوبية، للترويج للنموذج الصيني، من أجل محاصرة أمريكا.

كما تُتّهم روسيا بتدخلها في الانتخابات الأمريكية، حيث اتّهم مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي 13 مواطنًا روسيًا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي نُظّمت سنة 2016، وفاز بها الرئيس دونالد ترامب، كما اتُّهمت ثلاث شركات روسية بالقيام "بزرع الفتنة في النظام السياسي الأمريكي"، لكن مساعد المدعي العام، رود روز تشين، قال آنذاك في مؤتمر صحفي، "ليس هناك أدلة على أنّ أميركيين كانوا على علم بهذه النشاطات أو شاركوا فيها، كما لا دليل على أنّ هذه النشاطات أثّرت على نتيجة الانتخابات الرئاسية". وفي الوقت الذي نفت فيه روسيا هذه الاتهامات، فقد سبق لبوتين أن حذّر من أي تدخل أجنبي في الانتخابات الرئاسية الروسية التي نُظّمت في مارس/آذار الماضي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن