الحكايات التي لا نكتبها..!

حققت المخرجة اللبنانية كارول منصور حلم والدتها بالعودة لمسقط رأسها يافا التي غادرتها وهي صبية في العشرين، فتفتحت سنوات شبابها على ألم النكبة، لتظل كملايين الفلسطيين، لا تحلم قبل موتها سوى بالعودة لأرض وهواء وطنها.

ففي فيلمها الوثائقي "عائدة"، تروي كارول منصور حكاية والدتها السيدة الفلسطينية عايدة عبود، التي انتقلت بعد النكبة إلى لبنان ومنها إلى كندا حيث فارقت الحياة بها، وذلك بعد معاناة طويلة مع مرض الزهايمر، الذي زحف على ذكرياتها تباعًا، فلم تعد تذكر وهي في عمر التسعين سوى بحر يافا، وبيتها القديم: "البيت ورا الكنيسة.. ورا بياع البوظة"، هكذا تصف في لقطات بصرية متقطعة، فتحاول ابنتها المخرجة أن تلملم تلك اللقطات كقطع البازل، ليس فقط كتوثيق عائلي، بقدر ما هو محاولة لاستعادة الوطن من قلب الحكايات.

بعد رحيل الأم، تقرّر الابنة أن تحقق لوالدتها وصيتها الأخيرة، فتعبر برُفات والدتها لتتنفس بحر يافا وتُدفن في وطنها، وتستعين الابنة المخرجة بصديقات لها، من أجل مغامرة البحث عن بيت والدتها الذي وصفته من نِثار ذكرياتها، فتعود الأم عايدة إلى يافا، حتى لو قطعت القارات داخل كيس صغير لرفاتها كما أوصت، فالجسد والروح ينتميان لهذا التراب الفلسطيني.

لا تكف قصص العودة بكل صورها عن توليد الدهشة والأمل، فالفلسطيني في كل مكان لم يتوقف يومًا عن العودة لوطنه منذ النكبة، حتى لو وقف العالم كله ضد عودته، وهي عبارة أكد عليها الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله في ندوة بالجامعة الأمريكية في القاهرة أبريل/نيسان الماضي، متحدثًا عن دور الحكاية، والسردية الفلسطينية في المقاومة، وإحياء الأماكن التي دمرتها الحرب، وإعادة الحياة لمن هُجروا وسكنوا الخيام وسقطوا شهداء، مُستدعيًا رواية "رجال في الشمس" للكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني (1936-1972) التي وصفها نصر الله بأنها مؤسسة كاملة من 100 صفحة، لعبت دورًا لم تلعبه أية مؤسسة فلسطينية على مدار 60 عامًا.

فالحكايات تعيش رغمًا عن الموت، في حرب إبادة جوهرها تبديد الذاكرة، حرب يراهن قادتها على النسيان، في نغمة صهيونية ممنهجة: "سيموت كبارهم وينسى صغارهم".

وعلى ذِكر غسان كنفاني، فقد جعل إبراهيم نصر الله بطلة روايته "أعراس آمنة"، الصحفية الشابة، الغارقة في الغضب والحيرة وسط حكايات غزة وخرابها، جعلها في حالة تواصل وحوار مستمر ومُتخيّل مع غسان كنفاني وروحه الشجاعة، وإيمانه بالكتابة، تقول البطلة في مونولوج داخلي: "قررتُ أن أكتب ما أراه، وقد أُلقي به ذات يوم بين يديّ كاتب، أو أفتِّش عن قبر غسان كنفاني وأقول له قُم واكتب هذه الحكايات، الحكايات اليتيمة التي لا يكتبها أحد. فالحكاية التي لا نكتبها، حكايتنا التي لا نكتبها، أتعرف ما الذي يكون مصيرها؟ اسمح لي يا غسان، أن أسألك، أسألك من قلبي، فأمامك يمكن أن أصرخ أو أجنّ وألا أحسّ بإحراج، لأنني أحدِّثك أنتَ، لأنك منا؟ هل تعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟.. إنها تصبح ملكا لأعدائنا".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن