عملية قيس الفرّاج التي لم تتبنّها "وكالة أعماق" بعد، حرفت المتابعات السياسية والإعلامية ليس عن مجازر الاحتلال في غزّة فحسب، بل وأيضًا عن المواجهات النارية المتصاعدة في جبهة جنوبي لبنان، فهل هدفت العملية إلى خطف الأضواء عن فلسطين رغم أنّ "الذئب المنفرد" اعتبرها نصرةً لها؟ فليس سرًّا أنّ الولايات المتحدة تجلس في مقعد قيادة الحرب على غزّة كما أفصحت "مجزرة النصيرات" التي وقع ضحيتها مئات الشهداء والجرحى، بهدف تحرير 4 أسرى إسرائيليين، والتي لم تمنع تفكّك "مجلس الحرب" لاخفاقه في معالجة تداعيات "طوفان الأقصى" وفشله في تفكيك "القسّام".
وهل أنّ استهداف السفارة الأمريكية من قبل قيس الفرّاج النازح السوري المسجّل لدى وكالة اللاجئين منذ عام 2012، يهدف إلى زجّ النازحين في ساحة التوتير الأمني في لبنان، خصوصًا بعد فشل الاستثمارات السياسية والأمنية والمالية لعدة أطراف في خلق وقائع أمنية وسياسية في سوريا وفي لبنان باسم النازحين ومساعدتهم الإنسانية.
"خلط أوراق" الحسابات حيال حقيقة ما يجري تحضيره للمنطقة في ضوء نتائج العدوان على غزّة
بعيدًا عن الاسترسال في الأسئلة المتناسلة حيال ما تضمره الدول الكبرى للمنطقة، دعونا نسترجع عملية "داعش" في "كروكس". تلك الرسالة الأمنية البليغة التي أصابت موسكو ولم تكتفِ يومها بتوجيه الاتهام إلى أوكرانيا، بل جهرت بأنّ العملية التي يرتدي منفذوها قبّعات طاجيكستان على غرار التفجيرات التي استهدفت قبر قاسم سليماني في إيران، تمّت بإسناد وتوجيه وتمويل أمريكي غربي.
استهداف السفارة الأمريكية في عوكر من قبل "الذئب المنفرد" قيس الفرّاج، أعاد طرح السؤال "هل بات داعش تطبيقًا الكترونيا؟"، سيّما أن التحقيقات كشفت أنّه استعان بمعرفة تفاصيل تضاريس عوكر الجغرافية من خلال تطبيق "خرائط غوغل" المستخدَم من قبل "تطبيق داعش".
قبل حادثة عوكر بأيّام، ضجّت وسائل الإعلام بخبر عن نجاح الجيش اللبناني في تفكيك خلية خطيرة لـ"داعش" في منطقة البداوي شمالي لبنان، لكن الخطر داهمهم عبر "تطبيق داعش" الذي يشبه بدّالة اتصالات، وتمتلك الكثير من القوى المحلية والإقليمية والدولية والاستخبارية قدرة الولوج لهذه البدالة وتشغيل "التطبيق" جزئيًا، وسبق لها استدراج كثيرين أيضًا من شباب طرابلس والبداوي إلى سوريا والعراق لتغيب آثارهم وأخبارهم مع جثثهم المفقودة!
وقد أحدث استهداف السفارة الأمريكية الحصينة، بلبلة في الأوساط الإقليمية والدولية التي جهدت لمحاولة فك شفرة العملية الجريئة والواضحة والعارية من كل التباس كرسالة واضحة للولايات المتحدة، ما ضاعف من "خلط أوراق" الحسابات حيال حقيقة ما يجري تحضيره للمنطقة من إيران والعراق إلى سوريا ولبنان في ضوء نتائج العدوان على غزّة.
خطورة عملية استهداف السفارة الأمريكية في بيروت، تكمن في توقيتها السوبر استراتيجي، فهي تمّت في لحظة تصاعد الاشتباك الأمريكي الأوروبي مع روسيا في أوكرانيا، خصوصًا بعد السماح للجيش الأوكراني بقصف الدواخل الروسية بالصواريخ والمقاتلات والراجمات الغربية، ما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التلويح بتغيير قواعد الاشتباك وإعلانه عن استعداد بلاده للتعامل بالمثل، وتزويد دول وجماعات بصواريخ متطورة ذات مديات طويلة لاستهداف القوات الأمريكية والأوروبية. وأغلب الظنّ أنّ استعداد بوتين التسليحي قد دخل دائرة التنفيذ العملياتي.
وبديهي أنّ الانشغال الإقليمي الدولي في فكّ شفرة استهداف السفارة الأمريكية في بيروت، قد تراجع لصالح فكّ شفرة تطورين بارزين على مستوى التسليح لقوى الممانعة:
الأول، كان بإعلان "أنصار الله الحوثيين" عن إطلاق "صاروخ فلسطين" البالستي لأول مرة باتجاه فلسطين المحتلة، توازيًا مع ترحيبهم بإعلان بوتين التسليحي، مع ما يعني ذلك من دخول روسيا على خط توازنات البحر الأحمر.
الحرب على غزّة باتت تفصيلًا أمام أقواس الحرب الكبرى المحتملة
أما الثاني، فكان في إعلان "حزب الله" المفاجئ عن إطلاق "صواريخ دفاع جوي" لأول مرّة ضد طائرات إسرائيلية في سماء لبنان "ما أجبرها على التراجع باتجاه فلسطين المحتلة". مفاجأة الدفاع الجوي لـ"حزب الله" ضد مقاتلات حربية وليس ضد مسيّرات فقط، تعكس تحوّلًا نوعيًا في معادلات القوة والردع، وتلغي احتكار إسرائيل للحرب الجوية، وتكشف أنّ الحرب على غزّة باتت تفصيلًا أمام أقواس الحرب الكبرى المحتملة. طبعًا لسنا بصدد الدخول في نوعية وجنسية صواريخ الدفاع الجوي لـ"حزب الله"! يكفي الانتباه الى أنّ روسيا (بحكم تمركزها في سوريا) باتت دولة حدودية مع "حزب الله"، وهي أقرب إليه جغرافيًا وراداريًا من إيران.
ما يجري ليس مصادفات قدرية، بل تشابك وصياغة خيوط وخطوط إقليمية ودولية، وفي هذه اللحظة الاستراتيجية بالذات تُجري القوات الجوية السورية والروسية وعلى مدى أسبوع، مناورات قتالية في شرقي وجنوبي سوريا حول مسائل العمل المشترك للطيران ووسائل الدفاع الجوي والحرب الالكترونية خلال صدّ الهجمات الجوية.
اللافت أنّ هذه المناورات انطلقت بعد يوم واحد على انتهاء مناورات للقوات الأمريكية مع فصائل تابعة لها عند مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية في منطقة التنف، بعد تقارير أمريكية قالت بأنّ واشنطن دفعت إلى المنطقة بمقاتلات A10 المزوّدة بقنابل خارقة للأعماق، وذلك لمواجهة الفصائل التابعة لإيران والتي تستهدف القواعد الأمريكية من حين لآخر.
توازيًا مع العدوان على غزّة يتصاعد الكلام عن وساطة إيرانية روسية للمصالحة بين سوريا وتركيا، وتنشط الرسائل النارية باسم "داعش" بوصفه الشر ما بعد المطلق، من كروكس إلى عوكر.. فيما تمضي إيران في انتخاباتها الرئاسية على إيقاع تصاعد تصريحاتها حول عقيدتها النووية.
(خاص "عروبة 22")