لكن عملية "كروكس" التي سبقتها هجمات عدة، منها عملية "كرمان" الإيرانية قرب قبر قاسم سليماني في سنوية اغتياله الرابعة، عزّزت طرح الأسئلة حول حقيقة القضاء على التنظيم الذي تشاركت إيران مع "التحالف الدولي" لمكافحته في رفع راية النصر عليه.
التحذير الأمريكي كان عامًا وغامضًا وعزّز نظرية معرفة واشنطن بتفاصيل هجوم "كروكس"
رغم الضربات القوية التي تلقاها التنظيم، فحرمته السيطرة على مدن أو مواقع في سوريا والعراق، فقد تمكن "داعش" وبحسب ما تتحدث عنه أعماله من إعادة تنظيم صفوفه، وهيكلة مكاتبه التنظيمية والقيادية، وتوسيع مروحة انتشاره الجغرافية، باتجاه أفريقيا وخصوصًا دول الساحل والصحراء انطلاقًا من ليبيا بعد تقويضها من حلف "الناتو"، وأيضًا باتجاه دول القوقاز وأفغانستان بعد خروج القوات الأمريكية الهزيل منها. وباتت "ولاية خراسان" التي تضم أفغانستان والقوقاز وبفعل الهجمات التي نفذتها في إيران والقوقاز وأخيرًا في روسيا بمثابة رأس حربة التنظيم وعملياته التي تستقطب أعداء الاتحاد السوفياتي السابق، والإتحاد الروسي الحالي انطلاقًا من دوره في سوريا ضد التنظيمات المتطرفة، ما يستدعي التوقف عند الحاضنة القوقازية وخصوصًا الطاجيكستانية التي تشكّل منها فريق عملية "كروكس" الروسية وقبلها "كرمان" الايرانية.
ويبدو أنّ "داعش" من خلال عملياته داخل البيئة الأمنية الاستراتيجية الروسية، فضلًا عن إزكاء الصراع القديم يهدف إلى محاولة ضرب أسافين بين مكوّنات جمهوريات روسيا الاتحادية وإحداث صراع فيها بين المسلمين والأرثوذكس، وهو ما سبق وتنبّه له الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لا يفوّت فرصة للإعراب عن تقديره للإسلام والقرآن الكريم الذي تعهّد بوضعه في مكان لائق في الكرملين، في لحظة كان فيها متطرّف سويدي من أصول عراقية يقوم بحماية الشرطة السويدية بإحراق نسخة من القرآن ليشعل غضب المسلمين حول العالم.
هجوم "كروكس" الذي نفّذه "داعش"، أشعل وكالات الأنباء وخبراء التحليل السياسي، وأحدث انقسامًا حول اتساق نظرية المؤامرة مع الهجوم الذي حصل بعد أسبوعين من تحذير الولايات المتحدة لمواطنيها بتجنّب الاقتراب من الأسواق العامة وصالات الموسيقى، وهو التحذير الذي شاركته واشنطن مع المخابرات الروسية التي وجدت فيه نوعًا من الابتزاز الأمريكي على خلفية الحرب في أوكرانيا التي شهدت مدنها الرئيسية قصفًا روسيًا عنيفًا كثأر فوري لضحايا هجوم "كروكس" على خلفية اعتقال السلطات الروسية للمنفذين في منطقة "بريانسك" المحاذية للحدود الأوكرانية، واعتبرته الدليل القاطع على تورّط أوكرانيا في الهجوم الذي رفضته واشنطن.
أسلحة مكافحة الإرهاب هي نفسها أسلحة ممارسة الإرهاب
صحيح أنّ واشنطن حذّرت روسيا من احتمالية تعرضها لهجمات ارهابية، لكن التحذير الأمريكي كان عامًا وغامضًا ولا يتضمن معلومات تفيد الأمن الاستباقي الروسي بمنع الهجوم، ما عزّز نظرية معرفة واشنطن بتفاصيل الهجوم، وعزّز بالتالي نظرية المؤامرة واستطرادًا العلاقة السرية بين الولايات المتحدة و"داعش" والتي سبق وكشف دونالد ترامب أبوّة سلفه باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون له.
وبعيدًا عن نظرية المؤامرة، ربما بات على القوى الدولية العظمى والكبرى التي لم تعد تحتكر وحدها أدوات القوة والسيطرة، التسليم بأنّ آليات مكافحة الإرهاب في مضامينها العميقة تحمل كل عناصر الفعل الإرهابي الذي ترتكبه الدول في سياق سعيها لمكافحة الإرهاب، ما يعني بأنّ "أسلحة مكافحة الإرهاب، هي نفسها أسلحة ممارسة الإرهاب".
فـ"داعش الأصلي" لم يُستولد إلّا من رحم الإرهاب الذي مارسته الدولة العظمى عندما قرّرت عام 2003 غزو واحتلال العراق، ومن خارج الشرعية الدولية والأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولم يزل العراق ومحيطه العربي والإقليمي يعيش تداعيات ذلك الاحتلال والغزو المشؤوم حتى اللحظة.
بهذا المعنى، كثير من القوى الإقليمية والدولية استفادت من "داعش" بطريقة أو بأخرى، وربما تعاونت أو تقاطعت معه في هذا البلد أو ذاك. و"داعش" بتركيبته العقدية الدينية والفكرية هو أكبر من أن تصنّعه أجهزة استخبارات ما، كل ما في الأمر أنّ التنظيم يجد في الاستقطابات الدولية الحادّة في لحظة الخروج من الأحادية القطبية باتجاه التعدّدية فرصته المثالية لتنفيذ عملياته ما أمكنه ذلك، بهدف عودته إلى صدارة الأحداث العالمية.
فمن يظنّ أن أحدًا غير "داعش" قادر على خطف الأضواء الاعلامية المركّزة على العدوان الإسرائيلي على غزّة لأيام وليس لساعات؟ ألم تصبح جريمة الإبادة المتمادية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزّة منذ بضعة أشهر حتى اليوم ومعها قرار مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب خبرًا ثانيًا، لحظة وقوع هجوم "داعش" في روسيا؟.
منطلقات ودوافع "داعش" في تنفيذ عملياته الإبهارية لمريديه ومن يرون فيه الحلّ أمام الظلم المتمادي بحق المسلمين، مختلفة عن منطلقات ودوافع المنتظم الرسمي العربي والإقليمي والدولي. واستراتيجياته مشابهة لقدرته على التخفي والكمون في دهاليز العمل السرّي. ألم يبذل قادة الاحتلال الإسرائيلي جهودًا متواصلة لدعشنة حركة "حماس" والمقاومة الفلسطينية، كما ردّدت السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة بالأمس معزوفة اغتصابهم للنساء وقتل الأطفال التي سقطت من السردية الإسرائيلية!.
نسخة جديدة من "داعش" أشبه بتطبيق الكتروني ذكي
بالعودة إلى مهرجانات النصر على "داعش" في العراق وسوريا وحتى لبنان، ينبغي التنبّه مليًا أنّ القوى المحاربة لـ"داعش" اعتقلت الكثير من عناصره وكوادره، واعتقلت معهم هواتفهم المدجّجة بحساباتهم الالكترونية على مختلف التطبيقات المعروفة. وأنّ بعض القوى والأجهزة الاستخبارية أدارت بعض هذه الحسابات واستدرجت - باسم أصحابها الأصليين القابعين في السجون - العديد من المتحمّسين لفكرة "داعش"، (كما حصل مع بعض شباب طرابلس منذ عامين، والذي اختفوا عن أهاليهم ثم توالت الأخبار عن وصولهم إلى العراق، ومن ثم مقتلهم بقصف جوي عراقي وأمريكي). ما يعني بداهة أنّ بإمكان مستخدمي مثل هذه الحسابات الالكترونية فضلًا عن الاستدراج، التخطيط لعمليات وتنفيذها عبر "متحمّسين" ومن ثم نشر "وكالة أعماق" مسؤولية التنظيم عنها.
بالنسبة للهجوم على مسرح "كروكس" الروسي ألم تكشف التحقيقات الأولية اعتراف فريق هجوم "داعش" بتجنيده عبر "تطبيق تلغرام" من قبل شخص لا يعرفونه مقابل المال، ما يثبت أنّهم مرتزقة وهذا غريب على "داعش"، لأنّ الداعشي يعلم يقينًا بأنه سيُقتل أقلّه بحزامه الناسف أثناء تنفيذه لعمليته!
أغلب الظنّ بأنّنا أمام نسخة جديدة من "داعش"، الذي في حالة "كروكس" إمّا طوّر أسلوبه ليجمع بين العقائدي والارتزاقي، وإمّا أنّه تمت إدارة العملية عبر حسابات مخترقة. وفي كلتا الحالتين أصبح منطقيًا القول إنّ "داعش" بات أشبه بتطبيق الكتروني ذكي، يتيح لكل متحمّس للتنظيم الانضمام اليه، وتعلّم واكتساب المهارات اللازمة لتخطيط وتنفيذ العمليات الإرهابية، ولا يكلّفه الأمر سوى راية وهتاف وبضع رصاصات، ثم تقذف "أعماق داعش" خبر العملية وصورها ليتداولها الإعلام الدولي قبل المحلي.
(خاص "عروبة 22")