كانت الاحتجاجات مقدّمة انفلات الأجهزة الأمنية - العسكرية في ممارسة الانتهاكات بصورة وحشية، نتيجتها قائمة طويلة من الجرائم الخطيرة، تواصلت على مدار ثلاثة عشر عامًا، كان أبرزها ملف المعتقلين والمغيّبين قسرًا الذين يقدّر عددهم بأكثر من 250 ألفًا، بينهم نساء وأطفال سوريون وعرب وأجانب، وهو ملف يكشف وحشية النظام، ويحرّك كثيرًا من الفعاليات الحقوقية والقانونية والانسانية للمضي على طريق محاسبة المرتكبين وأصحاب العلاقة بالملف، وقد تصاعدت في السنوات الأخيرة عمليات رفع الدعاوى ومحاكمة مسؤولين سياسيين وأمنيين في نظام الأسد، صدرت على بعضهم أحكام، وآخرون على الطريق.
وإذا كان الهدف الأساسي من الادعاء على المتهمين ومحاكمتهم إيقاع العقاب بالمجرمين على ما قاموا به، فثمة أسباب أخرى تضاف أبرزها التنديد بالمجرمين والجرائم التي ارتكبوها، ولم تصلها بعد يد العدالة، وتوجيه إنذارات لمنع ارتكابها، وإجبار النظام على وقفها وكل الانتهاكات التي يقوم بها.
النظام السوري قائم على بنية وسياسات أمنية متشددة رسّخت طرقًا وأساليب قهرية في التعامل مع السوريين
وإضافة إلى سياسة إنكار الجرائم، التي اتبعها النظام بمعاونة حلفائه الروس، فقد سعى معهم نحو تحسين صورته وسجلّه لدى الرأي العام العالمي ولدى المنظمات الحقوقية والإنسانية في إطار مساعي تطبيع علاقاته الدولية والهروب من مسؤولية الجرائم التي ارتكبها، وزاد إلى ما تقدّم اتخاذ إجراءات تنظيمية وإدارية، تصب في سياق تبييض صفحة أجهزته الأمنية وإعادة ضبط ممارساتها وانتهاكاتها لحقوق السوريين وحياتهم، وكان في جملة الإجراءات، ما تم مؤخرًا في إجراء تغييرات أساسية في قيادات الأجهزة، وإعادة هيكلتها وتحديد وظائفها، وإعادة ترتيب وثائقها وأرشيفها، وإلغاء المحاكم العسكرية الميدانية بعد تاريخ طويل من أحكام خارج القانون.
وتستند الإجراءات في الأساسي منها إلى خطة روسية طُرحت عام 2019 هدفها تحسين صورة النظام وملفه الأمني، لكنها وُضعت على الرف، قبل أن يتم تحريكها مؤخرًا تحت ضغط مطالبات دولية، وعربية تسعى إلى استعادة سوريا إلى المحيط العربي من خلال تسوية، تتوافق مع الإرادة الدولية ومضمون القرار 2254.
ولم تكن تسوية القضية السورية السبب الوحيد للضغوطات، إنما كان إلى جانبه ملف تهريب الكبتاغون والأسلحة، خصوصًا إلى الأردن وعبره، وهو ملف كان حاضرًا في دائرة تحركات وزارة الداخلية، والتي ركّزت في الفترة الأخيرة على أمرين، الأول شد لحمة الأجهزة الأمنية والشرطية التابعة للوزارة وتحديد مسؤوليات الأجهزة والمراتب فيها بما يتناسب مع أداء مهمات خاصة ومنها موضوع المخدرات والاتجار بالبشر، والأمر الثاني إصدار تعميم يرسم حدودًا جديدة في تعامل أجهزة وزارة الداخلية مع السوريين منها الكشف عن وجود المعتقلين والموقوفين، ووقف التعذيب المعنوي أو الجسدي للموقوفين، وضرورة الالتزام بالمدد القانونية لفترة التحقيق والإحالة إلى القضاء، والتدقيق في المصادر الإخبارية التابعة للأجهزة الأمنية.
وكما هو واضح، فإنّ الإجراءات، يمكن أن تشكّل تحوّلًا في سياسة النظام في موضوع الانتهاكات، إذا جرى تطبيقها والالتزام بروحها. غير أنه من الصعب تحقيق ذلك، ولا توقعه حتى، لأنّ النظام الحاكم قائم على بنية وسياسات أمنية متشددة لعشرات السنين، رسّخت عبرها أجهزة النظام ومؤسساته طرقًا وأساليب قهرية وسبلًا ملتوية في التعامل مع السوريين وقضاياهم.
والسبب الثاني الذي يمنع إمكانية ذهاب الإجراءات إلى غاياتها المعلنة، أنّ الهدف الأساسي للنظام هو المحافظة على السلطة، وهو سلوك رسّخته تجربة حكم الأب والابن طوال أكثر من خمسين عامًا مضت، وما زال الابن متمسكًا بها رغم كل ما أصاب السوريين وسوريا من خسارات وكوارث في العقد الأخير، وليس كبار المسؤولين في مكتب الأمن الوطني ووزارة الداخلية أكثر من موظفين، يشغل أحدهم منصب رئاسة مكتب الأمن الوطني برتبة لواء، والثاني منصب وزير الداخلية بالرتبة ذاتها.
خطة إعلامية هدفها إعادة تسويق النظام والسعي للإفلات من العقاب على الجرائم التي ارتكبها ضد السوريين
والسبب الثالث في شكلية الإجراءات وعدم وصولها إلى المأمول، يظهر في ملاحظة أنّ كل الاجراءات، لا تتصل بالقضايا السياسية، التي تشكل لب مشاكل سوريا، ولم تصدر إشارة واحدة بصددها، وبين موضوعاتها المهمة قضية الموقوفين والسجناء والمختفين قسرًا، وهي الحالة الأهم والأخطر في انتهاكات النظام لحقوق السوريين وحياتهم.
خلاصة الأمر أننا أمام فصل جديد من سياسة مراوغة، تتواصل عبر إجراءات لا قيمة عملية لها، يجري الخوض فيها ضمن خطة إعلامية، هدفها إعادة تسويق النظام، والسعي للإفلات من العقاب على الجرائم التي ارتكبها ضد السوريين، وامتدت تداعياتها إلى كثير من دول العالم.
(خاص "عروبة 22")