اقتصاد ومال

"توزيع الدّخل" في العالم العربي: ماذا تقول الأرقام الجديدة؟

حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان يُعتقد أنّ المنطقة العربية لديها أدنى مستويات عدم المساواة في الدّخل في العالم. لكن انتفاضات "الرّبيع العربي" التي بدأت في العام 2011، والتي كانت مدفوعة بشكل أساسي بالاستياء الاقتصادي لدى "من لا يملكون"، غيّرت كل ذلك.

تُظهِر الأبحاث الجديدة، رغم أنها تستند إلى بيانات منقوصة، أنّ فجوة التّفاوت في الدّخل ليست مرتفعة فحسب، بل إنها آخذة في الارتفاع أيضًا[1]. لمساعدتنا على فهم أصول التّفاوت في الدّخل العربي، من المفيد أن نلاحظ أنّ عدم المساواة يمكن أن يكون بسبب عوامل خارجية وداخلية: العوامل الخارجية هي في الغالب العولمة والتطورات التكنولوجية والصّدمات الخارجية (مثل فيروس كورونا والأزمات المالية وتغيّر المناخ وما إلى ذلك)، بينما تعتمد العوامل الداخلية على الاستثمار وسياسات إعادة التوزيع والنفقات العامة وخاصة على التّعليم والاستقرار السياسي.

إذن، كيف كان التفاوت في الدّخل العربي على مدى السنوات الأربعين الماضية؟

بشكل عام، شهدت الثمانينيات انخفاضًا في متوسط ​​دخل شريحة الأعلى 10% من 38 أضعاف متوسط ​​دخل 50% الأدنى إلى 30، ويرجع ذلك أساسًا إلى طفرة النفط، وارتفاع الاستثمارات المحلية والإقليمية، وانتشار الوظائف العامة، والتي أفادت جميعها دخلًا أدنى من 50%. ومع ذلك، في الفترة من 1990 إلى 2007، ظلت هذه النّسبة ثابتة عند 30 نظرًا لأنّ العالم العربي بقي على الهامش، ولا يزال إلى حد كبير، مع موجات العولمة والتكنولوجيا الجديدة التي اجتاحت العالم[2]. ولكن بحلول العام 2010، انخفضت النّسبة مرة أخرى إلى 26، ليس بسبب ارتفاع دخل أدنى 50%، ولكن بسبب انخفاض دخل أعلى 10% بسبب الأزمة المالية في العام 2008.

التّفاوت في الدّخل في العالم العربي يمثّل مشكلةً خطيرة حلّها له فوائد هائلة

الأمر المثير للإهتمام هو ما حدث بعد ذلك، حيث ارتفعت النّسبة إلى 28 (وأعلى)، مدفوعة بمجموعة من العوامل: فيروس كورونا، انخفاض الاستثمارات، التخلّف التكنولوجي وعدم الاستقرار السياسي. وهناك عامل مهم آخر يتمثّل بأنّ دول مجلس التّعاون الخليجي الغنية زادت من انحراف توزيع الدّخل بالابتعاد عن البلدان العربية الفقيرة ورسم مسار جديد للاستثمار والنمو المتطلعَين إلى الداخل لنفسها.

ربما يكون المقياس الأكثر وضوحًا لعدم المساواة في الدّخل في العالم العربي هو حصص الدّخل. تظهر بيانات العام 2022 أن حصّة دخل أدنى 50% في العالم العربي بلغت 11%، في حين أنّ حصّة أعلى 10% كانت 56%، مع حصّة أعلى 1% عند 21%. هذه الأرقام ليست جيّدة على الإطلاق، بل وحتى خطيرة، لأنها قريبة من حصص الدولة التي تعاني من أسوأ تفاوت في الدّخل على مستوى العالم: جنوب أفريقيا، التي كانت أرقامها المقابلة 6%، و66% و22% على التوالي[3].

ماذا عن التّفاوت في الدخل في الدول العربية فرادى؟ يكشف الجدول أعلاه عن ثلاث ملاحظات مؤقتة ولكنها مثيرة للاهتمام: أولاً، من بين دول مجلس التّعاون الخليجي، تتمتع الإمارات العربية المتحدة بأدنى نسبة لمتوسط ​​دخل أعلى 10% من متوسط أدنى 50% عند 19، مما يعني في الغالب أنّ الفجوة بين دخل المواطنين والأجانب هي الأقل بين دول مجلس التّعاون الخليجي؛ ثانيًا، إن البلدان التي أصابها عدم الاستقرار السياسي والمالي، مثل لبنان واليمن، لديها نسب عالية - لأسباب واضحة - تبلغ 26 و32 على التوالي؛ ثالثًا، يبدو أنّ البلدان التي تتمتع باستقرار سياسي نسبي، واستثمارات أعلى، وسياسات اجتماعية وضريبية أسلم لديها أدنى النسب، مثل مصر والأردن عند 16 و18 على التوالي.

ونود أن نختم باستنتاجَين: أولًا، إنّ التّفاوت في الدّخل في العالم العربي، خلافاً لما كان مفترضًا سابقًا، يمثّل مشكلةً خطيرة والأهم من ذلك أنّ حلّها له فوائد هائلة: فهو يحسّن مستويات المعيشة، يعزّز "السلام الاجتماعي"، يزيد من النّمو الاقتصادي لأنه يؤدي إلى مزيد من الاستهلاك وربما الاستثمار، ويُوسّع حجم الطبقة الوسطى مما قد يؤدي إلى التّغيير السياسي الإيجابي وحوكمة أفضل.

الهدف يكمن في "ارتفاع موجة النمو" لترتفع معها جميع القوارب

ثانيًا، ما الذي يمكن أن يُحدثه هذا؟ بما أنّ العوامل الخارجية يصعب السيطرة عليها، فمن الأفضل التّركيز على العوامل الداخلية، لما لها من فوائد بالإضافة إلى قدرتها على احتواء العوامل الخارجية، والتي يمكن أن يشمل: دفع أجر معيشي ملائم، الاستثمار في التعليم العام الجيد، جعل الأنظمة الضريبية أكثر قدرة على إعادة التوزيع، وضمان الاستقرار السياسي. وبروح التضامن العربي، نضيف إعادة إحياء التكامل الاقتصادي لدول مجلس التّعاون الخليجي مع الدول العربية الأخرى، على أساس معايير جديدة تتعلق بالاستثمار الإنتاجي، نقل التكنولوجيا والنمو الشامل.

نقطة أخيرة: لم نركّز على النّمو في المقالة لأنّ "النّمو ببساطة" أظهر أنه يقلّل من الفقر ولكن ليس بالضّرورة من عدم المساواة في الدّخل؛ وعليه، فإننا نؤكّد على "النّمو الشامل" الذي يأخذ في الاعتبار السياسات المذكورة أعلاه، حيث أن الهدف يكمن في "ارتفاع موجة النمو" لترتفع معها جميع القوارب، ولكن مع رفع القوارب الصّغيرة أكثر!



[1]  مشرف، ر. (2022). "تفاوت الدخل في الشرق الأوسط". مختبر العدالة العالمية - النشرة الإخبارية للعدد 11 لعام 2022، نوفمبر 2022.

[2]   العولمة - التّدفق الحر للسّلع ورأس المال - تضر بتوزيع الدّخل لأنها تلحق الضّرر بالعمالة في الصّناعات المنافسة للواردات، بينما تفيد رأس المال خاصةً رأس المال المالي. من ناحية أخرى، تميل التطورات التكنولوجية إلى إفادة كل من العمالة ورأس المال.

[3] مختبر العدالة العالمية. (2022). تقرير تفاوت الدخل في العالم. باريس، فرنسا.

(خاص "عروبة 22" - ترجمة: سحر الزرزور)

يتم التصفح الآن