بصمات

في حاجة الاجتماع إلى الدّين

استطـاعـتِ الأديـانُ، دائـمًا، أن تكـون مـبـدأَ الْـتـحـامٍ لِلمجـتـمعـات وإنـتـاجِ أسبـاب التّـضامـن البـيـنيّ فيـها. وهـي إذا كـانـت قـد تـوسّـعتْ نـفـوذًا وانـتـشارًا في المجتـمـعـات الإنسانـيّـة أو ضـمُـرت وتَـضَـاءل حضـورُهـا فيـها، فـليـس مبْـعـث ذلك في - جـميـعِ الأحـوال - اخـتـلافُ درجـة اليـقيـن الذي يَـبـثُّـه هـذا الـدّيـن أو ذاك في الوعـي والوجـدان العامّ لأتـبـاعِـه المُخـاطَبيـن بـتعاليـمـه، بـلِ الغالبُ على التّـفاوُتِ في كـثـافـة الأديان في تلك المجتـمـعات أنّـه يعكس تـفـاوُتًا في درجـة صـلات المـؤمنـيـن بـها؛ ذلك أنّ الـدّيـن - أيّ ديـن - يَـحْـيَـا بأتـباعـه لا بـغـيـرهـم، فـهُـمْ مـن يُـجـسِّـدونـه مـاديًّا (إنسـانـيًّا)؛ وهُـم مـن يحملونـهُ إلى الآفـاق وينـشـرونـه فـتـفـشو تعاليـمُـه بهـم.

في حاجة الاجتماع إلى الدّين

وآيُ ذلك أنّ كـثـيرًا من الأديـان في التّـاريخ انـقرض ودَرَسَ رسـمُـه فـقـط لأنّـه لم يـجـدِ الجمـهـورَ الذي يجـسّـده ويـحمـلـه ويُـبـقـيـه حـيًّا وحاضرًا في التّـاريخ. وهـذا الجمهـور لم يوجـد، أو لم يستـمـرّ، لأنّـه لم يجـد في ذلك الـدّيـن - الذي أعـرضَ عـنـه - ما يُـحـقِّـق بغـيـتـه: بـنـاءُ شوكـة اجتـماعِـه وتمتـيـن أواصـره الـدّاخـليّـة على نـحوٍ تـتـحـقّـق فيـه مـاهـيّـتُـه الجمْـعـيّـة الجامعـة.

ولأنّ الـدّيـن حـاجـةٌ اجتماعـيّـة، كما الإيـمان حاجـةٌ فـرديّـة، كـان مـن الطّـبيـعيّ للمجتمعات التي لم تعـرف دينًا من الأديـان التّـوحيـديّـة الثّـلاثـة أن تـنـتـحل لـنـفـسها ديـانـاتٍ خاصّـةً تـتـميّـز بهـا. هـذا ما يـفـسِّـر لـماذا نشـأت، في التّـاريخ الإنسانـيّ، عشـرات الأديان واستمـرّت لمئـات السّـنيـن وتمسّـكـتِ المجتـمعات التي وُجـدت فيـها (تلك الأديـان) باعـتـناقـها وتـنـظيـم شـؤون عبـاداتـها وطقـوسـها مؤسَّـسـيًّا.

لا تؤمِن الأديان غير التّوحيديّة بفكرة التّوحيد لكنّها تؤدّي قطعًا إلى توحيد المجتمعات التي تعتنقها

سيُـقـال، من منـظـورٍ ديـنـيّ تـوحيـديّ، إنّ تلك الأديـان وضـعيّـة (بشـريّـة) ووثـنـيّـة وإنّـه ليس لـها، بالتّـالي، حـظٌّ من المشـروعيّـة من وجهـة نظـر الاعـتـقـاد الـدّينـيّ التّـوحيـديّ بالألـوهـة والخَـلْـق. وهـذا القـول إذا جـاز لقائـلِـه مـن جـهـة الـدّيـنِ كـاعـتـقـادٍ، فهـو لا يجـوز إنْ نـظرنـا إلى الـدّيـن مـن زاويـة وظائـفـه الاجتماعيّـة في المجتمـعات الإنسانـيّـة. نعـم، لا تـؤمِـن تلك الأديـان غير التّـوحيـديّـة بـفـكـرة التّـوحيـد (وحـدانيّـة اللّـه)، لـكنّـها تـؤدّي، قـطـعًا، إلى تـوحيـد المجـتـمعـات التي تـعـتـنـقـها.

لهـذا السّـبـب، قـد يـصْـعُـب أن يـرى المـرءُ عـالـمًا خالـيًا من الأديـان والتّـعاليـم والقـيـم الـدّيـنـيّـة على نـحـو مـا تـخـيّـلـتْ ذلك - خـطـأً - نـزعـاتٌ في الـفـكر الحـديث مـثـل الوضـعانـيّـة والعـلمـويّـة وبعض تيارات الفلـسفـة الوجـوديّـة. لا يـتـعـلّـق استـمرارُ نـفوذ الـدّيـن والـفـكرةِ الـدّيـنـيّـة بمساحـة نـفوذ أفـكار العِـلـم والتّـنـويـر، اتّـساعًا وضِـيـقًا، كمـا يمـكـن أن يُـظَـنّ مـن زاويـة فـلسـفـة المعـرفـة، بـل هـو استـمـرارٌ شـديـدُ الاتّـصال بـما يـوفِّـرهُ الـدّيـن للمـجـتـمـعات التي تـعـتـنـقـه مـن أسباب التّـضامـن والالـتحـام والشّـعـور الـذّاتـيّ، الأمـر الذي يفـرض عليـنا التّـميـيـزَ النّـظـريّ الصّـارم بيـن اجـتـماعـيّـات الأديـان وأنـظـمـة الاعـتـقـاد فيـها، والحـرصَ على عـدم التّـخـليـط بيـنها؛ فـفـي هـذا التّـميـيـز المنـهـجـيّ، فـقـط، يسـعـنا أن نـفـهـم - على الحـقيـقـة - معـنى القـول إنّ الأديـان حـاجـةٌ اجتماعـيّـة للـنّـاس.

مع تواتُر النّجاحات في فكّ الارتباط بين الدّولة والدّين في أوروبا والغرب لم تتخلّ مجتمعات ذلك العالم عن الدّين

يـمـكن أن تـتـعـرّض الأديـان لأشـكـالٍ مخـتـلـفـة من التّضـيـيـق على نـفوذهـا في المجـتـمعـات، ابـتـغـاء الحـدّ من ذلك النّـفـوذ ومن أجـل تمـكيـن منـظـومات أخـرى، وضعـيّـة أو بشـريّـة، من مسـاحـاتٍ للـتّـأثـير في الحيـاة العامّـة ولإنجـاز هنـدسـةٍ اجتماعيّـة وسياسيّـة لـهـا بعـيدًا من الـدّيـن. يحـصـل ذلك في الجـوانـب غيـر العَـقَـديّـة والإيـمانـيّـة، مـثـل الجانب التّـشريـعيّ. وقـد يـصـل النّـجاح في ذلك إلى حـدود إخـراج الـدّيـن من المجـال السّياسيّ والنّـظام الـقانـونيّ للـدّولـة. ذلك ما حصـل مع نجـاح عـملـيّـات العلمـنـة في مجـتـمعـات الغـرب الحـديث، والفـصـل بين الـدّولة والكنيسـة.

مع ذلك، مع تـواتُـر النّـجـاحـات في فـكّ الارتـبـاط بين الـدّولـة والـدّيـن في أوروبا والغـرب، لم تـتـخـلّ مجـتـمـعات ذلك العـالـم عـن الـدّيـن (= المسيـحـيّـة) ولا تـراجـعَ انـتـشـارُ هـذا فيـها. وهـذه قـريـنـةٌ معاصـرة على قـوّة ذلك الاقـتـران - بـل التّـلازُم - بيـن المجـتـمـع والـدّيـن.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن