كان انهيار الاتحاد السوفيتي السابق بشكل مفاجئ وبصورة غير متوقعة، أي دون مواجهة عسكرية، ذات تأثير غير عادى على السياسة الخارجية الأمريكية من حينها. حيث فطنت الولايات المتحدة إلى القوة الإعجازية لسلاح «القوة الناعمة» الذي أسهم بالنصيب الأكبر في انهيار هذا القطب العملاق.
ومن حينها، أصبحت القوة الناعمة أحد المرتكزات الرئيسية في السياسة الخارجية الأمريكية، وسلاح يتم تطويره بصفة دائمة لترسيخ القطبية الأمريكية وفي مواجهة الدول العصية. والحقيقة أن القوة الناعمة الأمريكية قوة ذات جاذبية مدوية، سواء تجسدت في النظام التعليمي الأمريكي، أو الثقافة الفنية والغنائية، أو الابتكارات التكنولوجية العالمية.. وغيرها. والحقيقة أيضا التي لا شك فيها أن القوة الناعمة الأمريكية أصبحت تمثل الآن المرتكز الرئيسي لاستمرار القوة الأمريكية في العالم، أو لنقُل الميزة التنافسية المتبقية لها بعدما ضعف توازن القوى العسكري والاقتصادي والجيوسياسية لصالح القوة الصاعدة.
خلصت المعادلة الأمريكية-التي يشوبها قدر من الغرور- أن لا دولة مستعصية على القوة الناعمة الأمريكية التي فككت إمبراطورية مترامية الأطراف، وقضت على أخطر وأهم إيديولوجية معادية للرأسمالية في القرن العشرين. إلا أن هذه المعادلة قد جابهت استعصاء مستحكما في وجهتين الأولى العالم الإسلامي والثاني الصين.
وربما قد تفهمت الولايات المتحدة كوامن الاستعصاء في العالم الإسلامي والتي منها الانحياز المطلق لإسرائيل، ومنظومة القيم الخاصة للمسلمين التي تتعارض تماماً مع القيم الأمريكية خاصة في مسألة حقوق الإنسان. لكن الأخطر والمحير للولايات المتحدة كان الصين.
وتفاقمت الحيرة مع صعود الصين كأكبر تهديد للأحادية الأمريكية على الإطلاق بعد الإجهاز على التحدي السوفيتي. تبنت الصين مع سياسة الانفتاح التي اتبعها الزعيم «دينج شياو بينج» الرأسمالية الاقتصادية، وانفتحت سياسيا على العالم، وانخرطت الصين والولايات المتحدة في علاقات دافئة في إطار سياسة الانفراج. كل ذلك كان مدعاة-رغم تحذير خبراء واشنطن المخضرمين- لاعتقاد واشنطن الجازم أن تحويل الصين كحليف أمريكي تام في آسيا أسوة باليابان وكوريا الجنوبية أمر ممكن وسهل للغاية.
تبنت الصين الرأسمالية الاقتصادية بصورة ليست كاملة تماما أسوة بالولايات المتحدة والجماعة الأوروبية لكنها تبنتها في النهاية. لكن على الصعيد السياسي والثقافي؛ جابهت الليبرالية السياسية، ومنظومة القيم الناعمة الأمريكية عامة التي تشكل المبادئ الليبرالية والقواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان النصيب الأكبر منها، جابهت استعصاء رسميا ونخبويا وشعبيا منيعا.
وعلى غرار التجربة السوفيتية، وغيرها الكثير من تجارب الدول الاشتراكية السابقة في أوروبا الشرقية، وأمريكا اللاتينية. يكون للقوة الناعمة فعل السحر إما على النخب الحاكمة أو الشعوب، أو الاثنين معا مثل الاتحاد السوفيتي بسبب الانبهار الشديد بالنموذج أو ما يدعى «الحلم الأمريكي». فتنقلب هذه الشعوب على النظم والأيديولوجيات الحاكمة، وتطالب بنظام ديمقراطي أملاً في استنساخ الحلم الأمريكي. وبالتبعية، تتحول النظم الجديدة إلى تابعين أو حلفاء مقربين للولايات المتحدة.
والمعضلة العويصة التي واجهت الولايات المتحدة أنه على الرغم من استمرار النظام الصيني كنظام حزب واحد متمسك بثقافته وهويته الخاصة. إلا أن شعبية هذا النظام في تزايد مطرد، والرهان على انقلاب نخبوي أو شعبي عليه أضحت ضئيلة للغاية.
مكمن السر الصيني يتلخص في أمرين: نجاح اقتصادي باهر، وتنوع وغنى الثقافة الصينية. نجح الحزب الشيوعي الصيني في غضون 3 عقود فقط من تحويل الصين من دولة فقيرة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وهذا في ظل التمسك بالقيم والمبادئ والثقافة الصينية المتنوعة الغنية.
الصين -وهذا ربما لا يعلمه الكثيرون- تمتلك قوة ناعمة قوية جدا مستمدة من تاريخها وثقافتها وتراثها الإيديولوجي. وهذا في حد ذاته يجعل تأثير القوة الناعمة الأمريكية عليها ضعيفا للغاية. إذ عكس ما يعتقد الكثيرون، تمتلك القوة الناعمة الصينية الكثير من خصائص القوة الناعمة الأمريكية، حتى في مسألة الديمقراطية، حيث يتاح في المجال العام التعبير عن جميع الآراء والاتجاهات بحرية بما في ذلك الاتجاهات المناهضة للشيوعية والحزب الواحد. حتى داخل الحزب الواحد هناك مناخ ديمقراطي واسع ومعارضة ضد بعض السياسات.
ولعل الأهم من ذلك أن الشعب الصيني لديه اعتزاز قوى بثقافته وهويته ومن الصعب ذوبانه في الثقافة الغربية. وتلك ثمة رئيسية للثقافة الآسيوية عموماً.
الخلاصة في الأمر أن النجاح الاقتصادي الباهر للحزب الشيوعي الصيني جنبا إلى جنب مع أصالة وتنوع الثقافة الصينية، لم يسقط غرور القوة الناعمة الأمريكية فحسب، بل حولت الصين إلى قوة ناعمة عالمية موازية. فنموذج التنمية الصيني أصبح منافس شرس للنموذج الليبرالي الغربي، خاصة ان الأول يجسد قوة ناعمة حقيقية تنجذب لها الدول طواعية ولا يتم فرضها بالترغيب أو الترهيب.
("الشرق") القطرية