تقدير موقف

القوة الحادة ومستقبل العالم (2/2)

توقفنا في الجزء الأول من هذه المقالة عند عدّة أنماط من القوة التي أنتجها الفكر السياسي الأميركي على الخصوص، وهي القوة الصلبة التي تستند إلى البُعد العسكري والاقتصادي، و"القوة الناعمة" التي تقوم على استثمار البُعد الثقافي و"القيمي" والإعلامي وحتى الروحي في استمالة الشعوب والأفراد، والقوة الذكية التي تعني كفاءة توظيف القوة الصلبة أو الناعمة في السياق المناسب، وأخيرًا، القوة الحادة التي نظر إليها كريستوف والكر وجسيكا لولدفيغ، في مقال لهما حول "معنى القوة الحادة: مشروع الدولة السلطوية في التأثير". ونتوقف في الجزء الثاني عند بعض مؤشرات توظيف هذا النمط الجديد من مفهوم القوة.

القوة الحادة ومستقبل العالم (2/2)

لقد اعتبرت عدّة دول غربية أنّ الانتخابات الروسية ليست حرّة ونزيهة؛ وقال الاتحاد الأوروبي في بيان مشترك "هذا يتعارض مع التزامات روسيا ويحرم الناخبين والمؤسسات الروسية من تقييم محايد ومستقل لهذه الانتخابات"، كما اعتبر الاتحاد الأوروبي "ما يسمى بالانتخابات" التي أجريت في الأراضي الأوكرانية التي احتلتها روسيا مؤقتًا "لاغية وباطلة" (كما ذهبت إلى ذلك قصاصة إخبارية في موقع "مونت كارلو الدولية" مؤرخة في 18 مارس/آذار 2024).

ممارسة "القوة الحادة" هي أسلوبٌ قديمٌ ولكنه تجدد مع الثورة التكنولوجية الجديدة

إنّ التراشق بالاتهامات بين أمريكا وروسيا والغرب، حول استعمال القوة الحادة، وفي جزء منها، وهو التدخل في الانتخابات والتأثير في الرأي العام، يعكس بلا شك افتضاح ممارسة القوة الحادة، وطرق الاختراق، بين هذه القوى؛ ومن الطريف، أنّ موقع "أورونيوز" العربي، قد نشر مقالًا ورد فيه بأنّ "القوة الحادة هي الخداع في استخدام المعلومات لأغراض عدوانية، هو نوعٌ من القوة القاسية، هناك تاريخ طويل للتلاعب بالأفكار والتصورات السياسية والعمليات الانتخابية. كلاهما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، لجأ الى مثل هذه الأساليب خلال الحرب الباردة".

لا شك أنّ ممارسة "القوة الحادة"، ليس أمرًا جديدًا في الممارسة السياسية، داخليًا وخارجيًا، من طرف الدول، فهي أسلوبٌ قديمٌ ولكنه تجدد مع الثورة التكنولوجية الجديدة وأصبح بالإمكان تنظيم حملات اختراق المجتمعات، بشكل أسرع وأكثر فعالية وخطورة، وبشكل خفي. وذلك أنّ القوة الحادة، تختلف عن القوة الصلبة، من منظور العلانية أساسًا، فالدول تلجأ إلى القوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية، بشكل علني وغير قانوني. ولهذا فإنّ القوة الحادة، يستعمل فيها كل أساليب الابتزاز والإكراه والاذلال والخداع والتلاعب بالخصم، سواء كان على معرفة بمن يمارس عليه ذلك أم لا.

وتلجأ أغلب أجهزة المخابرات التابعة للقوى الدولية، إلى تنفيذ القوة الحادة، مثل تنظيم الاغتيالات وتأسيس "الطابور الخامس" في بعض المجتمعات، والتخطيط للانقلابات والتأثير النفسي في الشعوب والتلاعب بهم عن طريق ترويج الأخبار الكاذبة والتشكيك في الأنظمة، وتقوية المعارضة وتمويل المظاهرات والثورات وكذلك تأسيس جماعات متطرفة وإرهابية وتمويلها؛ وكُتب الكثير عن ذلك مع تسريب معلومات عن تورط مثلًا الموساد، في اغتيال علماء وشخصيات سياسية ورجال أعمال وغير ذلك. وقد وصل الأمر حاليًا، الى درجة تنظيم حملات لهدم الأسرة في المجتمعات التقليدية، والضغط على الحكومات لقبول الشذوذ الجنسي باعتباره من الحقوق؛ بالرغم من تحفظ عدّة دول في العالم على بعض الحقوق الواردة في الجيل الرابع للحقوق، لأنها تخالف المرتكزات الثقافية والدينية والقيمية.

يتعيّن السعي إلى توحيد الجهود العربية للتصدي لأشكال القوة الحادة التي ترمي إلى تفكيك البنيان العربي

ويبدو أنّ المنطقة العربية، مستهدفة من عدة جهات بأساليب القوة الحادة، بينما لا تملك الدول العربية القدرة على ممارسة القوة الحادة على هذه القوى الدولية والإقليمية، ولا ندعو لذلك، وإنّما يتعيّن السعي إلى توحيد الجهود العربية، للتصدي لأشكال القوة الحادة، التي تجري وترمي إلى تفكيك البنيان العربي المتهالك أصلًا. كما لا يتعيّن أن تمارس الدول العربية على بعضها أساليب القوة الحادة، لأنّ ذلك يؤدي إلى مزيد من الانقسام وفقدان الأمل في وحدة المنطقة العربية.

عمومًا، فإنّ ممارسة القوة الحادة، تشكّل تحديًا كبيرًا للمجتمعات الهشة، وباقي المجتمعات، ويمكن أن تفضي إلى حرب عالمية جديدة، لأنّ القوة الحادة تساهم في إعاقة التنمية والسلم وتكرّس الهشاشة الاستراتيجية وترسّخ التهديدات الهجينة وتوسّع نطاقها إقليميًا وعالميًا.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن