تميّز القرن التاسع عشر، في جملة ما تميّز به، بظهور مبدعين روائيين كبار من فرنسا وبريطانيا وألمايا وروسيا ندكر منهم بلزاك، زولا، تشارلز ديكنز، تولستوي، دوستويفسكي. أما في العالم العربي فإنّ الرواية لم تشهد ظهورها الفعلي - وكذا تطورها الهائل - إلا في القرن العشرين.
والملاحظ والمعلوم أيضًا أنّ ذكر أديبنا الكبير، نجيب محفوظ، يملأ هدا القرن وليس من المغالاة في القول ولا من الإسفاف في العبارة أن نؤكد أنّ الروائي العربي الحائز على جائزة نوبل في الآداب يظل، في مجال الكتابة الروائية العربية الرائد والأول من حيث الترتيب والأهمية معًا - وذلك لاعتبارات ثلاثة: أولها، غزارة وجودة ما كتبه نجيب محفوظ، فلسنا نعرف له بين روائيينا العرب مثيلًا من هذه الجهة، فهو قد كتب ونشر ما يقرب من سبعين رواية ومجاميع قصصية.
ثاني الاعتبارات، أنّ ذكر صاحب "أولاد حارتنا" قد ملأ من القرن العشرين ثلاثة أرباعه، ثم امتد بعد ذلك ليشغل من القرن الحالي سنواته الأولى وهو ما لسنا نعرف له نظيرًا عند الروائيين وعند كتّاب القصة القصيرة من العرب المعاصرين. يكفي أن نذكر أنّ نجيب محفوظ هو مؤلف "زقاق المدق" و"بداية ونهاية" و"السراب" و"همس الجنون" و"القاهرة الجديدة" والثلاثية الأشهر (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) - وغيرها من النصوص الروائية العربية الصادرة في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن المنصرم- يكفي أن ننبّه إلى ذلك حتى نتبيّن المكانة العلية للرجل في مقام الكتابة الروائية.
كل من التاريخ والمجتمع والرواية في عالمنا العربي المعاصر يتقاطع ويتداخل في وعي نجيب محفوظ
أما ثالث الاعتبارات فهو أنّ صاحب "اللص والكلاب" و"الطريق" و"ثرثرة فوق النيل" و"ميرامار" (ولستُ أملك أن أفاضل بين هده النصوص العظيمة، وقد تمت ترجمة العديد منها إلى لغات عالمية عديدة) قد عاين الأحداث العظمى التي عاشها المجتمع المصري المعاصر (بدءًا من ثورة 1919، فثورة يوليو، ثم هزيمة 67- وكذا الأحداث والتحوّلات اللاحقة على ذلك والتي كانت تمس المجتمع والإنسان المصري في عمق الوجود) - ناهيك عما في النصوص المذكورة من عمل إسهام في تطوير الكتابة الروائية العربية - وهذا ليس يكون لكل أحد.
نقول في عبارة جامعة إنّ كلًا من التاريخ والمجتمع والرواية، في عالمنا العربي المعاصر، يتقاطع ويتداخل في وعي نجيب محفوظ فيكون قلمه توقيعًا وترجمةً لذلك التقاطع والتداخل. هل يعني هذا القول أنّ الروائي صدى مباشر للمجتمع الذي ينتمي إليه؟ وهل يعني هدا القول، من جهة أخرى، أنّ الرواية تعبير عن التاريخ بكيفية أخرى أو أن في الرواية ما يصح اعتباره عملًا تأريخيًا؟.
الرأي عندي أنّ تمايزًا تامًا، بل مطلقًا، يوجد بين الأطراف الثلاثة (المجتمع، الرواية، التاريخ). الروائي شيء، وعالم الاجتماع شيء، وكذلك المؤرخ غير الروائي. هده هي القضية التي تستوجب التوضيح وما أؤمن أنّ من طبيعة إسهامي في هذا الموقع، تحديدًا، القيام به، وهذا ما سأحاوله لاحقًا، بحول الله.
الأصح الحديث عن المجتمع والتاريخ كما يحضران في الكتابة الروائية عند محفوظ وليس الحديث عنه بحسبانه صدى لهما
قبل أسابيع قليلة، في المعرض الدولي للكتاب في أبو ظبي، تقرر أن يكون نجيب محفوظ الشخصية المعنوية السنوية للمعرض، في دورة السنة الحالية وهذه مبادرة عظيمة تستدعي التنويه بها والتنبيه إلى أهميتها - فما أحوج الجهات المسؤولة عن بلورة الوعي الثقافي العام في العالم العربي إلى القيام بذلك أيًا كانت تلك الجهات - وفي هذا الصدد تمت الدعوة إلى ندوة ارتأى منظّموها أن يكون عنوانها: "نجيب محفوظ مرآة للتاريخ والمجتمع". كان لي شرف المساهمة في هذه الندوة بعرض، بجانب ثلة من خيرة الباحثين العرب وبرئاسة لروائية عربية حظيت بجائزة الشيخ زايد للكتاب لهده السنة، وكانت الفرصة سانحة لي لأعبّر (قارئًا ومنتسبًا إلى دائرة الروائيين العرب) عما أشعر به من اعتزاز لأديبنا العظيم، من جهة، وللتفكير في مسألة الصلة بين الرواية وبين التاريخ وبين الاثنين وبين علم الاجتماع.
تمهيدًا لحديث لاحق، أقول في جملة واضحة أصوغها في صورة القضية التي تستدعي الإبانة والتوضيح: الأصح، عندي، أنّ الحديث يكون، بالأحرى، عن المجتمع وعن التاريخ، كما يحضران في الكتابة الروائية عند نجيب محفوظ وليس الحديث عن نجيب محفوظ بحسبانه صدى أو ترجيعًا للتاريخ والمجتمع أو أننا نقرأ التاريخ والمجتمع - على "ما هما عليه".
(خاص "عروبة 22")