بصمات

في السؤال عن الدولة العربية وأزمة النخب

سعيد علي نجدي

المشاركة

تمر الدول العربية في هذه الأيام، بمستجداتٍ وأزمات خانقةٍ على صعيد الاجتماع السياسي، وهي بالأساس قد راكمت تركةً لا يُستهان بها على كافة البُنى الإنتاجية والسياسية والثقافية الراكدة. وآخرُ هذه الأزمات الانتفاضاتُ التي هزت ميكانيزمات الدول فضلًا عن الحروب والصراعات العديدة، وآخر الفصول حرب الإبادة الإسرائيلية... إلخ.

في السؤال عن الدولة العربية وأزمة النخب

قد يسأل سائلٌ لماذا السؤال عن الدولة كمفهوم، مع أنّ الدولة موجودةٌ وحاضرةٌ من حيث المؤسساتُ الحديثة، (برلمان، قضاء، أحزاب، انتخابات)، في معظم الدول العربية.

الإشكالية هي في عقلية النخب الحاكمة في السلطة التي لم تعمل على بناء مشروع يحقق الانعتاق من التبعية؟

يحضر السؤال الاستشكالي إذن من خلال هذا الالتباس: أنه بالرغم من وجود الدولة وحضورها وبسط سلطتها ونيل استقلالها، لماذا هذه الدول غير مستقرة وكذلك مستتبعة ولم تطلق ديناميات تحديثية في بنى الانتاج؟

هل الإشكالية في الدولة العربية الحديثة التي تشكلت أثناء الاستعمار وأنجزت ما بعد خروجه؟.

أم الإشكالية هي في عقلية النخب الحاكمة في السلطة والتي لم تعمل على بناء مشروع يحقق الانعتاق من التبعية لقوى الاستحواذ من جهة، ومن جهة أخرى لم تعمل على بناء نموذج جديد يؤدي إلى استقلال عن العقلية الأبوية لهذا الوعي الذي يؤثر على أنماط الفعل على كافة مؤسسات التنشئة المجتمعية (العائلة؛ المدرسة، مؤسسات إنتاج المعنى... إلخ)، وهما بطبيعة الحال يعملان على إعاقة بناء القوة على كافة البنى؟.

ملاحظات في الاجتماع السياسي العربي: 

أولًا - الأنموذج الملكي الأميري

بدايةً سوف نعمل على توصيف للنخب الحاكمة في الدول العربية، فيتقدم النموذج الأميري وهو قائمٌ بشكلٍ كبير على بُعد القرابة لناحية التوريث السياسي. والتوريث هو نقل الشيء المأثور من شخصٍ إلى آخر بقرارٍ فردي أو جماعي. وهو أساس الشبكة الوراثية، التي تعكس نفسها من المجتمع على أساس مؤسسات السلطة أو الدولة، وهذا النموذج موجودٌ لدى التاريخ العربي وغير العربي منذ زمنٍ بعيد، لكنه ما يزال حاضرًا وبقوةٍ حتى الآن مع وجود الدولة الحديثة والعلاقة هنا تبدو مقلوبةً أي أنّ بنى الحداثة (المؤسسات الحديثة من حزب إلى إعلام إلى برلمانات)، هي في خدمة بنى التقليد (القرابة والعائلة بوجه خاص لناحية توريث الزعامة – القوة).

هذا النموذج مع انقطاعه في العديد من الدول العربية كمصر، حيث كان في سلالة محمد علي باشا (ملوك - خديوات) باني الدولة المصرية الحديثة، وبقي ممتدًا حتى الملك فاروق، وفي اليمن (المملكة المتوكلية اليمنية) التي انتهت في عهد عبدالله السلال، وكذلك على سبيل المثال في العراق في ظل الاحتلال الانكليزي الذي جاء بالملك فيصل. هذا الأنموذج وإن انقطع في العديد من البلدان واستبدل بنخبٍ أخرى (عسكرية) ما زال موجودًا في دول كالأردن مع العائلة الهاشمية ودول الخليج كالسعودية مع عائلة آل سعود، والكويت الأميرية مع عائلات السالم والجابر، والبحرين مع عائلة آل خليفة، وقطر مع عائلة آل ثاني. ودولة المشيخات في الإمارات. والسلطنة في عمان، وكذلك الحال في مملكة المغرب في شمال أفريقيا... إلخ.

ثانيًا - الأنموذج الجمهوري

تحولت الدول إلى النظام الجمهوري بعد فترة الاستعمار، وقد اصطدمت بعائق النهضة نتيجةَ واقع أنّ النهضة لكي تنبلج، فلا بد من عدم وجود آخر مستعمر، على سبيل المثال أنجزت أوروبا مشروع بناء الدولة وهي لم تكن مستعمرة أي لم يكن هناك من وجود لآخر، أما في الحالة العربية فأنجزت الدول الحديثة في فترة الاستعمار، أي تم إسقاط نموذج جاهز مطبق على البنى السياسية العربية.

وقد أتت غالبية البرجوازيات الصغيرة الحاكمة من طبقة التجار (الكومبرادور) كالنموذج اللبناني، والتي أصبح فيها التحالف بين البرجوازيات التجارية ورؤساء الطوائف وقد تكرس التوريث حتى اليوم بوجود عائلات من الفترة الإقطاعية والتي عملت على تبديل في أنماط إنتاجها، بغية التكيّف مع أنماط السوق الحديث. كذلك أتت النخب الحاكمة من المؤسسة العسكرية، ولهذا دورة النخبة لم تؤدِ إلى سيرورة طبيعية حسب مفهوم بوتومور، أخذ هذا النموذج يتشابك ما بين الديمقراطية والتوتاليتارية، أي ما بين المدني والعسكري، وهذا النموذج موجود في عدة دول في شمال أفريقيا كالجزائر ومصر، وفي سوريا حتى الآن وفي دول أخرى كالعراق قبل الدخول الأميركي، واليمن قبل الحرب الراهنة، وأنّ النظام في هذه الدول يقوم على المشاركة إلا أننا نشهد ظاهرة وهي بقاء الرؤساء مدة طويلة بالحكم على سبيل المثال حسني مبارك وحافظ الأسد وبن علي ومعمر القذافي... إلخ.

بعد مرحلة القومية واليسار أتت مرحلة صعود الفقه السياسي 

منذ سنوات ومع دخول المنطقة بمرحلة الانتفاضات وما سُمّي بالربيع العربي، فرض هذا المستجد قراءة تتمتع بأدوات تنفذ إلى الواقع الذي حدث فيه عطب طارئ في ميكانيزم حقل القوة، وهذا الطارئ أدخل المنطقة في مسارات لم تتحول بنيويًا على صعيد الدولة لعدة أسباب، أعيد معه الإسلام السياسي بشكل قوي.

فبعد مرحلة القومية واليسار أتت مرحلة صعود الفقه السياسي والتي أثيرت حولها الكثير من النقاشات في القرن الماضي في عصر النهضة من علي عبد الرازق ومحمد عبده، إذ أخذ معه الإسلام السياسي طابعًا ليبراليًا لناحية الديمقراطية والعلمنة بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية. ثم راح بعد مرحلة أخرى يأخذ أشكالًا أخرى لناحية تطبيق منهج السلف خصوصًا مع فكر "الإخوان المسلمين" وبالتحديد فكر سيد قطب الذي كفر الدولة ووصم المجتمع بالجاهلية داعيًا إلى استلهام نموذج إسلام الخلفاء الراشدين، أو نموذج ولاية الفقيه في المقلب الشيعي، الذي تجسّد مع السيد الخميني، والذي تبنى فكره العديد من الأحزاب، كـ"حزب الله" في لبنان، ما خلق أزمة على صعيد الهوية، كما يشرح الشيخ محمد مهدي شمس الدين، من خلال أزمة الحكم وأزمة الطاعة، وقد وضع مقابل ذلك ولاية الناس على نفسها... إلخ.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن