تقف إسرائيل في مواجهة التحوّلات الدبلوماسية الأممية الأخيرة، ومن خلفها تراث كامل من احتقار القانون الدولي، وهو احتقار حسبما يقول الدكتور محمد عبود، أستاذ الدراسات العبرية بجامعة عين شمس، لـ"عروبة 22"، بدأ متزامنًا مع إعلان تأسيس الدولة العبرية في عام 1948 ولا يزال مستمرًا حتى اليوم، وهو ما يتجلى بوضوح في حالة الغطرسة التي يمكن ملاحظتها بسهولة داخل كثير من الدوائر السياسية والعسكرية داخل الكيان.
يؤمن ساسة إسرائيل بشكل يقيني أنّ بلادهم دائمًا فوق القانون، ولعل ذلك الإيمان يفسر إلى حد كبير، حالة الارتباك الشديدة التى انتابت العديد من الدوائر السياسية والاستخباراتية في تل أبيب، في أعقاب الضربات المتتالية من قبل المؤسسات الأممية، التي تسببت في إثارة موجة واسعة من القلق، يمكن إجمالها في خمسة مخاوف رئيسة، على رأسها التخوف الأكبر من أن يؤدي قرار "الجنائية الدولية" بملاحقة واعتقال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت إلى صدور قرارات اعتقال بحق قادة آخرين في جيش الاحتلال، في خطوة من المؤكد أنها سوف تغل إلى حد كبير يد جيش الاحتلال في عملياته القادمة.
يُضاف التقرير الذي انتهت إليه لجنة التحقيق الدولية المستقلة، التابعة للأمم المتحدة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلة، والذي يتضمن إدانة واضحة لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فى حرب غزّة، إلى تقارير أممية سابقة، وثّقت ما ارتكتبه دولة الكيان من مجازر في الأرض المحتلة على مدار عقود، على نحو يقترب من سجل شامل لانتهاكاتها المتواصلة للقانون الإنساني الدولي، وهو السجل الذي انتهى بنهاية مايو/أيار الماضي، إلى إعلان منظمة الأمم المتحدة، إدراج إسرائيل على قائمة العار الأممية، في سابقة هي الأولى منذ صدور تلك القائمة فى عام 2006.
واللافت أنّ القرارات والإجراءات الأممية الأخيرة، تزامنت في أقل من أسبوع، وعلى نحو ربما لم يكن من الممكن تصوره قبيل اندلاع الحرب في غزّة، وقد استهل مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تلك القرارات في 20 مايو/أيار، بإصدار أمر قضائي بحق نتنياهو وجالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، قبل أن تفاجأ حكومة الحرب في إسرائيل، بعد أيام قليلة بإعلان حكومات النرويج وإسبانيا وأيرلندا اعترافها بالدولة الفلسطينية، وهو ما يعني بوضوح انضمام الدول الثلاث، إلى 140 دولة أخرى عضوة في الأمم المتحدة، تعترف بفلسطين كدولة مستقلة ذات سيادة، في إطار خطة حل الدولتين التي تحظى كل يوم بدعم أممي واضح، ولعله الدعم الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأكبر للدولة العبرية، إلى الإعلان – ولأول مرة منذ عقود – أنها سوف توقف شحنة من الذخائر الثقيلة، كان من المقرر أن تصل إلى إسرائيل على وجه السرعة، بسبب إصرار نتنياهو على الاستمرار في تنفيذ خطة الهجوم الشامل على رفح جنوب قطاع غزّة.
تؤشر التحركات الأممية الأخيرة على نحو واضح، حسبما يرى كثير من المحللين والمراقبين، إلى أنّ إسرائيل باتت على أعتاب حالة من العزلة السياسية على المستوى الدولي، وأنّ هذه العزلة سوف تفضي كل يوم، حسبما يرى المتخصّص في الشؤون الإسرائيلية محمد عبود، إلى تآكل مزيد من شرعيتها، وربما تحولها لدولة مصابة بالجذام، حسب تعبير الإعلام الإسرائيلي، يفر منها المجتمع الدولي، فمسار الدعوى في المحكمة الجنائية الدولية، والخطوات التالية التى اتخذتها العديد من المؤسسات الأممية، قد يدفع دولًا أوربية عدة، لحظر بيع السلاح لحكومة متهمة بتنفيذ جرائم حرب بحق الفلسطينيين، في خطوة من المؤكد أنها سوف تمثل مشكلة ضخمة، لجيش ترتبط آلته العسكرية على نحو وثيق، بما يحصل عليه من سلاح وذخيرة من واشنطن وعواصم أوروبية أخري مهمة.
حالة العزلة الدولية التى باتت تحاصر إسرائيل من كل ناحية، لم تتوقف فحسب عند نية العديد من دول الاتحاد الأوروبي، تعليق صادراتها من السلاح والذخائر إلى الدولة العبرية، لكنها امتدت أيضًا للتفكير جديًا في تعليق العديد من الاتفاقيات التجارية مع تل أبيب، وهو ما بدا واضحًا في إعلان الكسندر دي كرو، رئيس وزراء بلجيكا التي تتولى بلاده الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي، دراسة إمكانية فرض حظر تجاري على العديد من الصادرات الاسرائيلية إلى دول الاتحاد، في ظل الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة لضمانات حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي، وهي الخطوة التى ربما تكون قد ساهمت على نحو ملحوظ في إعلان تركيا حظر علاقاتها التجارية الكاملة مع إسرائيل، ومنح العديد من المؤسسات التجارية التركية، مهلة ثلاثة أشهر لإنهاء كافة تعاقداتهم مع نظرائهم في تل أبيب.
الخطوات الأممية باتجاه فرض العزلة على إسرائيل امتدت أيضًا إلى سلسلة من الإجراءات الدبلوماسية، التي تراوحت ما بين قطع العلاقات كلية، أو تخفيض مستوى الاتصالات، على نحو ما فعلت العديد من دول أمريكا الجنوبية، مثل بوليفيا وكولومبيا، بل أنها امتدت أيضًا لتشمل إعلان العديد من المؤسسات العلمية والبحثية في العديد من بلدان العالم الحر، تعليق عمليات تبادل الطلاب والباحثين مع المؤسسات الإسرائيلية، وهي الخطوة التي سوف تكون لها تداعيات مدمّرة، على واحد من أكثر القطاعات تطورًا في إسرائيل على مدار العقود الثلاثة الماضية.
(خاص "عروبة 22")