اندلعت الحرب الإسرائيلية على غزة وأخذت الشعب الفلسطيني على مدى تسعة أشهر تجرفه صوب نفق الإبادة الجماعية.. بلا رحمة تلين.. انتزعت الرحمة من جوف قلوب العالمين.. تركتهم تسحقهم آلة الحرب الغاشمة.. لا تستطيع قوة على ظهر الأرض وقفها.. مضت بنهر الطريق إلى حيث بلوغ أهداف تتوهم الوصول إليها، واستغلت صمتا رهيبا لاذ بالعالم وموتا يتحقق لمحاولات تبذل لوقف الحرب - تذهب سدى - لتظل الولايات المتحدة الأمريكية كلمة السر إذا ما أرادت أن تضع الحرب أوزارها.
كل الشواهد وإن تغيرت ملامحها بعض الشيء تشي بأن الرغبة الأمريكية لم تولد على أرض الوجود بتدخل يقضي وقف عمليات القتل الإسرائيلية الممنهجة لسكان غزة، وإن عقدت العزم فسوف تتوقف على الفور.. بينما إرادتها تختبئ في الأفق- تمتنع عن طرْق أبواب فلسطين- تعيد إليها أمانا فقدته وحياة مهددة بالموت بين لحظة وأخرى.. إن التغيير الطفيف بالموقف الأمريكي من حرب غزة والمتأرجح - صعودا وهبوطا - غير مستقر على حال يبدو بملامح باهتة يصعب قراءتها على وجه الدقة.. فيتحدد الموقف بلا لبس أو غموض وموقفها للناظرين ليس عادلا ويحركه التراجع المتزايد لحظوظ بايدن أمام ترامب في الانتخابات المقبلة وحالة الانقسام المتزايدة داخل مجلس الحرب (سابقا) ومشاعر الخوف السائدة بأن يكون طوفان الأقصى أول الغيث لزوال دولة إسرائيل.
تبدو علامات الدهشة فرض عين تعلو قسمات وجه الرئيس الأمريكي بايدن بتعبيرات مضطربة.. لانحيازه - استمرارا للحرب - طلبا لمصالح انتخابية وتوثيقا لنظرة قاصرة للقائمين على رسم السياسات الخارجية.. حتى أصبحوا رهينة لوجهات نظر عقيمة قادتهم - بارتكاب أخطاء فادحة - بالمزج بين دولة إسرائيل وشخصية نتنياهو ليختصوه بدعم مطلق دون النظر لمصلحة الشعب الإسرائيلي. وضعت إدارة الرئيس الأمريكي مجموعة اعتبارات لإقامة إستراتيجية حاكمة لحرب غزة واتخذت نهجا ملزما بما يتعين القيام به وقدمت على أثرها دعما غير محدود لإسرائيل منذ اندلاعها وأعطتها بسخاء ما تحتاج إليه بأكثر من مائة صفقة مبيعات سلاح متطورة وتمدها بما لديها من معلومات استخباراتية للوصول لأماكن وجود الرهائن الذين تحتجزهم حماس، والسعي بصور شتى لتحريرهم كأولوية قصوى، وعملت حتى اللحظة كضامن وحيد لاحتواء الصراع بين أطراف محددة للحيلولة دون امتداده لحرب إقليمية واسعة ولخوف بتورط القوات الأمريكية بالدخول طرفا مباشرا في القتال.
تدرك أمريكا أن حرب السابع من أكتوبر تمثل قضية مفصلية لسياسات أرست دعائمها بالشرق الأوسط وتسهم بتوطيد علاقاتها مع حلفائها بالمنطقة، وبالرغم من تحديات إستراتيجية تضع عبئا ثقيلا فوق كاهلها بأكثر من منطقة حول العالم وما تعانيه إثر صراع توازن القوى مع الصين وروسيا.. إلا أن المنطقة تبقى بحاجة شديدة لرؤية مغايرة ومنهج أكثر مصداقية تعزيزا لسيطرتها باتجاهين.. الأول.. العودة لمسار المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ودعم السلطة الفلسطينية والضغط على بنيامين نتنياهو لتغيير سياساته، وتبني عملية سلام شاملة والثاني.. ضمان الحفاظ على استقرار علاقات إسرائيل مع مصر والأردن.. تحقيقا لسعيها نحو تشكيل بنية أمنية مستقرة تقوض النفوذ الصيني والروسي وتقطع الأذرع الإيرانية.
تسكن نيات غير طيبة فيما تسلكه الولايات المتحدة الأمريكية تجاه حرب غزة وما تبذله من محاولات لا تعبر عن صدق النيات وما تنتهجه يأتي كاشفا بانحياز صارخ لإسرائيل.. حتى عندما تقدمت لمجلس الأمن مؤخرا بمشروع قرار حمل بين ثناياه غموضا، ولم يصدر بهدف تنفيذه وسعت من ورائه لتحسين صورتها أمام العالم.
تبدو إدارة جو بايدن عند مفترق طرق تطويها مسافات الخيارات الصعبة.. فخيارها الأول.. إما أن تتمسك بمسارها الراهن ومحاولة إنجاز صفقة من خلال ممارسة مزيد لمحاولات تفاوضية مع الأطراف، وهو مسار تشوبه مصاعب كثيرة.. أهمها أن إستراتيجية نتنياهو المتبعة منذ السابع من أكتوبر تستند لاستمرار الحرب إلى ما لا نهاية.. كونه يعلم يقينا أن وقفها يحمل بين ثناياه مصيرا مظلما يؤول إليه مع حكومته ويعصف بمكانة وقوة إسرائيل إذا بقيت حماس بصدر المشهد السياسي والعسكري.
وخيارها الثاني.. الدخول في منافسة مع الحزب الجمهوري إذا ما جاء السعي لاسترضاء نتنياهو كضمانة للحصول على تأييد اللوبي الصهيوني، وهو ما سيؤدي لمواجهة صراعات مع قطاعات واسعة داخل حزبه ومع فئة الشباب الذين ظهر صوتهم عاليا بحراك الجامعات، وما تظهره استطلاعات الرأي كاتجاه قوي نحو ضرورة وقف الحرب على غزة.
كل الخيارات المتاحة أمام الرئيس الأمريكي جو بايدن قاسية وتضعه في مأزق وتدفعه صوب خوض صراعات تهدد استمراره داخل البيت الأبيض.. فقدرته بالضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو تكاد تكون معدومة، وإن كان بمقدوره اتخاذ قرارات قاطعة بوقف الحرب، وكتابة مشهد النهاية لمعاناة سكان غزة.
("الأهرام") المصرية