المُدُنُ التَّقْليدِيَّةُ، كَما أَشارَ هنري لوفيفر (Henri Lefebvre): كانَتْ مَبْنِيَّةً على مَفْهومِ "إِنْتاجِ الفَضاءِ الِاجْتِماعيِّ"، فالْأَزِقَّةُ، وَالْأَسْواقُ، وَالمَساجِدُ وَالْكَنائِسُ على سَبيلِ المِثالِ فِي مُدُنِنا العَرَبِيَّةِ، لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ هَياكِلَ مِعْمارِيَّةٍ، بَلْ كانَتْ مِساحاتٍ تَتَفاعَلُ مَعَ النّاسِ وَتُنْتِجُ أَنْماطًا اجْتِماعِيَّةً مُسْتَمِرَّة. هَذا التَّفاعُلُ هُوَ ما جَعَلَ الحَيَّ وَحْدَةً اجْتِماعِيَّةً قائِمَةً بِذاتِها، حَيْثُ العَلاقاتُ اليَوْمِيَّةُ تُكَرِّسُ الشُّعورَ بِالِانْتِماءِ، وَتُتيحُ لِلْمَدينَةِ أَنْ تُشْعِرَ سُكّانَها بِأَنَّها جُزْءٌ مِنْ حَياتِهِم. فِي المُقابِلِ، التَّحَوُّلُ الحَديثُ لِلْمُدُنِ العَرَبِيَّةِ نَحْوَ الطَّابَعِ الوَظيفيِّ، القائِمِ على السُّرْعَةِ وَالِاسْتِهْلاكِ، خَلَقَ فَجْوَةً بَيْنَ المَدينَةِ وَسُكّانِها، وَأَدّى إلى ضَعْفِ الرَّوابِطِ الِاجْتِماعِيَّة.
وَبِالعَوْدَةِ إلى مَفْهومِ مارك أوجيه عَنْ "اللّامَكانِ"، فَإِنَّهُ يُفَسِّرُ بِشَكْلٍ وَاضِحٍ الواقِعَ العُمْرانِيَّ الحَديثَ: المَراكِزُ التِّجارِيَّةُ الكُبْرى، الْأَبْراجُ السَّكَنِيَّةُ، الطُّرُقُ السَّريعَةُ، كُلُّها فَضاءاتٌ مَوْجودَةٌ لِلِاسْتِخْدامِ اليَوْميِّ لَكِنَّها لا تُنْتِجُ تَفاعُلًا اجْتِماعِيًّا حَقِيقِيّا. فِي المُدُنِ العَرَبِيَّةِ، هَذِهِ الْفَضاءاتُ غالِبًا ما تَحُلُّ مَحَلَّ الْأَسْواقِ التَّقْليديَّةِ المُغْلَقَةِ وَالمَقاهي الشَّعْبِيَّةِ، مِمّا يُقَلِّلُ مِنْ فُرَصِ بِناءِ عَلاقاتٍ مُتَكَرِّرَةٍ وَمُسْتَدامَةٍ بَيْنَ السُّكّان. هُنَا يَظْهَرُ تَراجُعُ قُدْرَةِ المَدينَةِ على تَشْكيلِ شَخْصِيَّةٍ اجْتِماعِيَّةٍ لِلْمَكانِ، وَهُوَ ما يُلاحَظُ فِي شُعورِ الْأَفْرادِ بِالغُرْبَةِ أَوِ الِانْعِزالِ داخِلَ مَدينَتِهِمْ، حَتّى فِي ظِلِّ الزِّحَامِ السُّكّانِيّ.
الذاكرة الجماعية للأحياء هي ما يمنحها الحياة
لوفيفر فِي إِنْتاجِ الْفَضاءِ: يَرَى أَنَّ المَدينَةَ تُنْتِجُ نَفْسَها بِاسْتِمْرارٍ مِنْ خِلالِ مُمارَسَةِ النّاسِ اليَوْمِيَّةِ، وَأَنَّ الذاكِرَةَ الجَماعِيَّةَ لِلْأَحْياءِ هِيَ ما يَمْنَحُها الحَياة. عِنْدَما تَخْتَفي هَذِهِ الْأَماكِنُ أَوْ تُهَمَّشُ لِصالِحِ مَشاريعَ حَديثَةٍ، تَفْقِدُ المَدينَةُ جُزْءًا كَبيرًا مِنْ عَلاقَتِها بِسُكّانِها. فِي المُدُنِ العَرَبِيَّةِ، إِعادَةُ التَّخْطيطِ العُمْرانيِّ أَحْيانًا تُهَمِّشُ البُنْيَةَ التَّقْليدِيَّةَ لِلأَحْياءِ، مِثْلَ الأَسْوَاقِ المُغَطّاةِ وَالسّاحاتِ القَديمَةِ، مِمّا يُؤَدّي إلى تَراجُعِ التَّفاعُلِ الاجْتِماعيِّ التَّقْليديِّ وَيَخْلُقُ شُعورًا بِفَقْدانِ الِانْتِماء.
وَكَما لاحَظَ أَيْضًا زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) فِي أَعْمالِهِ حَوْلَ الحَداثَةِ السّائِلَةِ، فَقَدْ أَشارَ إلى أَنَّ التَّحَوُّلَ العُمْرانِيَّ وَالِاجْتِماعِيَّ الجَديدَ فِي المُدُنِ فَرَضَ نَمَطًا مِنَ العَلاقاتِ الفَرْدِيَّةِ العارِضَةِ، القائِمَةِ على الوَظيفَةِ أَكْثَرَ مِنَ الِالْتِزامِ الاجْتِماعِيّ. وَنَسْتَفيدُ مِنْ ذَلِكَ لِنُلاحِظَ أَنَّ الْأَزِقَّةَ وَالمَقاهِيَ التي كانَتْ مَرْكَزًا لِلتَّجَمُّعِ اليَوْميِّ لَمْ تَعُدْ تُؤَدّي هَذا الدَّوْرَ فِي الكَثيرِ مِنَ المُدُنِ العَرَبِيَّةِ، الْأَمْرُ الَّذِي يُؤَدّي إلى ضَعْفِ الرَّوابِطِ الِاجْتِماعِيَّةِ وَتَراجُعِ قُدْرَةِ السُّكّانِ على إِنْتاجِ مُجْتَمَعٍ مَحَلّيٍّ مُتَماسِك.
ضغط الحياة اليوميّة يُعيد تشكيل سلوك الأفراد
إِنَّ التَّحَوُّلاتِ العُمْرانِيَّةِ وَالاجْتِماعِيَّةِ جَعَلَتِ المَدينَةَ العَرَبِيَّةَ أَحْيانًا "مَنْظومَةً ضاغِطَةً" أَكْثَرَ مِنْ كَوْنِها حَاضِنَةً لِلْعَلاقاتِ الْإِنْسانِيَّةِ. الازْدِحامُ، السُّرْعَةُ، وَضَغْطُ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ يُعيدُ تَشْكيلَ سُلوكِ الْأَفْرادِ، وَيَجْعَلُهُمْ يَتَبَنَّوْنَ عَلاقاتٍ دِفاعِيَّةً مَحْدودَةً ذاتَ طابَعٍ عِصابيٍّ، أَوْ يَسْعَوْنَ لِلتَّفاعُلِ الِاجْتِماعِيِّ عَبْرَ فَضاءاتٍ افْتِراضِيَّة. وَهُنا يَظْهَرُ التَّحَدي الرَّئيسِيُّ لِعِلْمِ الِاجْتِماعِ المَدينيِّ: كَيْفَ يُمْكِنُ إِنْتاجُ فَضاءاتٍ حَضَرِيَّةٍ تَحْتَضِنُ الْإِنْسانَ فِعْلِيًّا، بَدَلَ أَنْ تَظَلَّ المَدينَةُ مُجَرَّدَ مَكانٍ لِلِاسْتِهْلاكِ اليَوْمِيّ؟
وَالحَلُّ بِطَبيعَةِ الحَالِ لا يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ فِي رَفْضِ الحَداثَةِ أَوِ التَّوَسُّعِ العُمْرانيِّ، بَلْ فِي دَمْجِ الْفَضاءِ الاجْتِماعيِّ فِي التَّخْطيطِ العُمْرانِيّ. وَيَكْمُنُ ذَلِكَ مِنْ خِلالِ:
- إِعادَةِ إِحْياءِ المِساحاتِ العامَّةِ الحَقيقِيَّةِ القادِرَةِ على إِنْتاجِ تَفاعُلٍ اجْتِماعِيّ.
- الحِفاظِ على الذّاكِرَةِ الجَماعِيَّةِ لِلْأَحْياءِ التَّقْليدِيَّةِ وَدَمْجِها مَعَ البُنْيَةِ الحَديثَة.
- تَصْميمِ بِيئاتٍ حَضَرِيَّةٍ تُعَزِّزُ التَّفاعُلَ اليَوْمِيَّ بَدَلًا مِنْ أَنْ تَفْرِضَ الفَرْدِيَّةَ المُطْلَقَة.
هَلِ المَدينَةُ تَتَنَفَّسُ؟
المَدينَةُ العَرَبِيَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ فَضاءٍ مادّيٍ، بَلْ مَنْظومَةٌ اجْتِماعِيَّةٌ حَيَّة. إِشْكالِيَّةُ "اللّامَكانِ" التي وَصَفَها مارك أوجيه، وَارْتِباطُها بِفِكْرَةِ إِنْتاجِ الْفَضاءِ عِنْدَ لوفيفر، وَتَحْليلُ باومان لِلْحَداثَةِ السّائِلَةِ، جَمِيعُها تُؤَكِّدُ أَنَّ العَلاقَةَ بَيْنَ المَدينَةِ وَالنّاسِ اليَوْمَ في المُدُنِ العَرَبِيَّةِ تُواجِهُ تَحَدِّياتٍ حَقِيقِيَّة. فَهْمُ هَذِهِ العَلاقَةِ وَإِعادَةُ بِناءِ الْفَضاءاتِ الِاجْتِماعِيَّةِ هُما خُطْوَتانِ أَساسِيَّتانِ لِضَمانِ أَنْ تَبْقى المَدينَةُ لَيْسَتْ فَقَطْ مَكانًا لِلْعَيْشِ، بَلْ مِساحَةً لِلِانْتِماءِ وَالإِبْداعِ الِاجْتِماعِيّ. الْإِنْسانُ يَعيشُ المَدينَةَ، لَكِنَّ المَدينَةَ تَعيشُ فِيهِ أَيْضًا، فَتَضْبُطُ إيقاعَ يَوْمِهِ، وَتُوَجِّهُ تَحَرُّكاتِهِ، وَتُعيدُ تَشْكيلَ إِدْراكِهِ لِلْمَكانِ وَالانْتِماء. بِهَذا المَعْنى، المَدينَةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ إِطارٍ، بَلْ كائِنٌ حَيٌّ مُتَحَرِّكٌ، يَنْمو وَيَتَفاعَلُ وَيُعيدُ تَشْكيلَ النّاسِ الَّذينَ يَسْكُنونَهُ وَيَمْنَحونَهُ الحَياة.
السلطة تُشوّه المعنى الاجتماعي للمدينة فتتحوّل من فضاء حياة مشترك إلى إطار جاف للاستهلاك والحركة العابرة
وَأَخيرًا المَدينَةُ، على الرَّغْمِ مِنْ كَوْنِها كائِنًا حَيًّا يَتَنَفَّسُ وَيَتَفاعَلُ مَعَ النّاسِ، تَصْبِحُ أَداةً لِلسُّلْطَةِ حينَ تُعادُ هَنْدَسَتُها لِتُفْقِدَ النّاسَ انْتِماءَهُمْ إِلَيْها وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِوَضْعِ الحَدّ. مِنْ خِلالِ إِزالَةِ الْأَسْواقِ التَّقْليديةِ، تَفْكيكِ الْأَحْياءِ، أَوْ تَحْويلِ السّاحاتِ إلى فَضاءاتٍ وَظيفِيَّةٍ مُحايِدَةٍ، تُشَوِّهُ السُّلْطَةُ المَعْنى الاجْتِماعِيَّ لِلْمَدينَةِ، فَتَتَحَوَّلُ مِنْ فَضاءِ حَياةٍ مُشْتَرَكٍ إلى إِطارٍ جافٍّ لِلاسْتِهْلاكِ وَالحَرَكَةِ العابِرَة. هَذا التَّشْويهُ يَقْطَعُ الرَّوابِطَ بَيْنَ الْإِنْسانِ وَالمَكانِ، وَيَجْعَلُ المَدينَةَ كِيانًا بِلا ذاكِرَةٍ جَماعِيَّةٍ، بِلا روح. فِي هَذِهِ الحالَةِ، المَدينَةُ لا تُنْتِجُ مَعْنًى مُتَوَهِّجًا، بَلْ تُعيدُ تَشْكيلَ النّاسِ وَفْقَ نَمَطٍ مَفْروضٍ، حَيْثُ يُصْبِحُ الانْتِماءُ لِلْقُوى فَقَطْ، وَالعَلاقَةُ مَعَ المَكانِ مُضْطَرِبَةً وَمَحْكومَةً بِالسُّلْطَة.
(خاص "عروبة 22")

