وتشكّل تلك الصناعات قاطرة الاقتصاد التي تخلق فرص العمل وتسهم في الناتج بحصة كبيرة، وتشد القطاع الزراعي نحو التحديث والتطور التقني، وكذلك الأمر بالنسبة لقطاع الخدمات. وحتى بعد أن تتحول الاقتصادات النامية والأقل نموًا، إلى اقتصادات ناهضة وصناعية جديدة، فإنّ الصناعة التحويلية تظل تساهم بما يتراوح ما بين ربع وثلث الناتج المحلي الإجمالي.
تبدو الاقتصادات العربية إجمالًا بعيدة عن التحول إلى دول صناعية جديدة أو متقدمة، حيث بلغ الناتج في قطاع الصناعة التحويلية فيها نحو 418,5 مليار دولار، بما يوازي نحو 11,7% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العربي عام 2022.، ويعود 57% من ناتج الصناعات التحويلية العربية للسعودية ومصر وحدهما.
النقص الفادح في الصناعات عالية التقنية يؤدي إلى الاعتماد شبه الكامل على سد الاحتياجات العربية منها من خلال الاستيراد
وفضلًا عن تدني إسهام الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي العربي، فإنّ تلك الصناعات تتركز بالأساس في صناعات تكرير النفط (10 ملايين برميل يوميًا يتم إنتاج 78% منها في السعودية والإمارات والكويت والعراق ومصر والجزائر)، والبتروكيماويات، والأسمنت (247 مليون طن يتم إنتاج 68% منها في أربع دول هي السعودية ومصر والعراق والجزائر)، والسكر (3,5 مليون طن يتم إنتاج نحو 78% منها في مصر وحدها، ولو أضيف إليها المغرب والسودان تصبح النسبة 98%)، ومواد البناء، والغزل والنسيج والملابس، وهي صناعات تتفاوت في مستويات تقدمها، لكنها في غالبيتها تقع ضمن الأكثر تلويثًا للبيئة. وحتى بالنسبة لتصنيع النفط فإنه محدود حيث بلغ حجم الإنتاج العربي من النفط الخام نحو 25,4 مليون برميل يوميًا عام 2022، بينما بلغت طاقة معامل التكرير نحو 10 ملايين برميل يوميًا تتوجه غالبيتها لسد احتياجات الأسواق المحلية، وبالتالي يتم تصدير الغالبية الساحقة من النفط في صورته الخام!
ليست هناك مشكلة في وجود وتوسّع تلك الصناعات التي تتوافر موادها الأولية في البلدان العربية، ولكن المشكلة تكمن في النقص الفادح في الصناعات عالية التقنية، بما يؤدي إلى الاعتماد شبه الكامل على سد الاحتياجات العربية منها من خلال الاستيراد. كما يؤدي إلى هامشية الصادرات العربية من السلع عالية التقنية والتي لا تزيد عن مجرد 2% من صادرات السلع الصناعية العربية المتدنية أصلًا، مقارنة بنسبة 19% في المتوسط العالمي ونحو 23% في الصين التي تتصدر دول العالم في هذا الصدد وفقًا لبيانات البنك الدولي.
يصل إسهام الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات بالغة التدني في العراق (1,6%)، وليبيا (1,7%)، والجزائر (4%)، والبلدان الثلاثة منتجة ومصدّرة كبيرة لمواد الطاقة (النفط والغاز). ويبلغ احتياطي العراق من النفط نحو 144 مليار برميل وهو في المرتبة الثالثة عالميًا بعد السعودية (267,1 مليار برميل)، وإيران (208,6 مليار برميل). ويبلغ حجم إنتاج العراق من النفط نحو 4,5 مليون برميل يوميًا، وقيمة صادراته النفطية نحو 95,9 مليار دولار عام 2022. ورغم ذلك فإنّ هذا البلد الثري بموارده الطبيعية يكتفي بريعها ولا يملك سوى صناعات تحويلية هزيلة للغاية تضعه في ذيل الدول العربية من زاوية إسهام تلك الصناعات في الناتج المحلي الإجمالي بما يضع علامات استفهام أمام كفاءة ونزاهة الحكم القائم على المحاصصة الطائفية والمذهبية المقيتة في إدارة الثروة النفطية العراقية وتوظيفها في تطوير الاقتصاد. وزد على ذلك أنّ العراق يمتلك احتياطيات من الغاز الطبيعي تبلغ 3,7 تريليون متر مكعب، ولا ينتج منها سوى 9,4 مليار متر مكعب في السنة مما يضطره لاستيراد الغاز من إيران!!
المشكلة تكمن في أولويات السلطات الحاكمة وكفاءة ونزاهة إدارتها للمال العام
أما الجزائر التي تملك احتياطيات نفطية قدرها 12,2 مليار برميل، وتنتج نحو مليون برميل يوميًا وتبلغ قيمة صادراتها النفطية نحو 21,3 مليار دولار عام 2022، ولديها احتياطي من الغاز يبلغ نحو 4,5 تريليون متر مكعب، وتنتج 98,2 مليار متر مكعب في السنة، فإنها تأتي قبل الأخيرة بمرتبتين من زاوية إسهام الصناعات التحويلية في ناتجها المحلي الإجمالي. والغريب حقًا أنّ الجزائر تتصدر الدول العربية في معدل الاستثمار (إجمالي الاستثمارات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) بشكل دائم تقريبًا. وبلغ ذلك المعدل عام 2023 نحو 36,5%، بما يعني أنها من المفروض أن تكون الأقدر على تغيير وتنويع هيكل الناتج وزيادة حصة الصناعات التحويلية في الاقتصاد، لكنها ليست كذلك، مما يستوجب مراجعة فعالية وأولويات الاستثمارات وكفاءة ونزاهة إدارة الجزء العام منها.
أما ليبيا التي تحتل المرتبة قبل الأخيرة عربيًا في إسهام الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي، فإنها تملك احتياطيات نفطية ضخمة بلغت 48,4 مليار برميل، وأنتجت نحو مليون برميل من النفط يوميًا عام 2022، وبلغت إيراداتها من صادراته نحو 27,3 مليار دولار في العام المذكور. لكن إنتاجها وصادراتها النفطية مضطربة تبعًا لحالة الاستقرار الأمني وتطورات الصراعات الأهلية التي تغذيها القوى الإقليمية والدولية.
وهذا الأمر يوضح أنّ المشكلة تكمن في أولويات السلطات الحاكمة وكفاءة ونزاهة إدارتها للمال العام.
يبلغ إسهام قطاع الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي أعلى مستوياته في البحرين (22,3%)، والأردن (19,9%)، والمغرب (18,7%)، ومصر (16,8%). وكلها تعتبر دون المستوى المطلوب للنهوض!
وبلغ إسهام ذلك القطاع في الناتج المحلي الإجمالي عام 2022 نحو 15,6%، 15,5%، 14,8%، 13,4%، 12,6%، 10,8%، 10,5%، 10,4% في كل من السودان، والسعودية، وتونس، وسورية، وفلسطين، واليمن، ولبنان، وعمان بالترتيب، بينما بلغ إسهامه في الناتج نحو 9,3% في كل من الإمارات وقطر. وبلغ إسهامه في الناتج نحو 7,4%، 5,9%، 5,4%، 4,6% في جزر القمر، وموريتانيا، والكويت، وجيبوتي بالترتيب في عام 2022.
الاستثمارات سيكون حجمها وفعاليتها أعلى كثيرًا لو كان هناك تعاون مالي واستثماري عربي حقيقي
وخلال الفترة بين عامي 2015، 2022، تراجع الناتج بالأسعار الجارية في الصناعة التحويلية بنسبة 4,4% في الجزائر، وبنسبة 50,8% في لبنان، وبنسبة 7,7% في اليمن. وهناك بلدان عربية بطيئة في تطوير قطاع الصناعة التحويلية والناتج منه وإسهامه في الناتج المحلي الإجمالي مثل العراق والأردن وتونس. وقد بلغ معدل النمو الإجمالي للقيمة المضافة في الصناعات التحويلية بالأسعار الجارية في الدول المذكورة بالترتيب نحو 16,7%، 16,6%، 15,5% في إجمالي الفترة من عام 2015 حتى عام 2022. وهناك بلدان متوسطة النمو لهذا القطاع الحيوي وهي مصر وموريتانيا والمغرب والكويت، حيث سجلت بالترتيب نموًا قدره 36,9%، 35%، 30,9%، 30,7% في إجمالي الفترة من عام 2015، حتى عام 2022. أما الدول النفطية الغنية فإنها استخدمت جانبًا محدودًا من قدراتها المالية التي تهاجر للخارج بالأساس، في تطوير قطاع الصناعات التحويلية فيها. وقد تمحور التمدد في هذا القطاع حول المنتجات النفطية والبتروكيماويات، وكانت المقدمة للمملكة السعودية، والبحرين، وعمان حيث سجلت بالترتيب نموًا في هذا القطاع قدره 89,4%، 76,3%، 71,5% في إجمالي الفترة المشار إليها آنفًا. وسجلت الإمارات وسورية وقطر وجيبوتي وفلسطين والسودان وجزر القمر معدلات معتدلة لنمو هذا القطاع.
ومن المؤكد أنّ هذا الوضع يتطلب وضع خطط قُطرية وتوجهات عربية عامة لإصلاح الاقتصاد وتنويع هيكله واستنهاض النمو في الاقتصاد عمومًا وبخاصة في قطاع الصناعاة التحويلية والصناعات عالية التقنية من خلال الاستثمارات الجديدة التي سيكون حجمها وفعاليتها أعلى كثيرًا لو كان هناك تعاون مالي واستثماري عربي حقيقي، ولو تم فتح الأسواق العربية بلا عوائق أمام تدفق الاستثمارات والسلع العربية في مجمل الفضاء الاقتصادي العربي.
(خاص "عروبة 22")