تقدير موقف

الدور العربي الغائب في منع حرب إسرائيلية على لبنان!

لأول مرة منذ اندلاع "طوفان الأقصى" تصبح مخاطر قيام إسرائيل بشن عدوان على لبنان يقود لحرب إقليمية شاملة في الشرق الأوسط مخاطر جدية. 

الدور العربي الغائب في منع حرب إسرائيلية على لبنان!

تكفّل طرفا الحرب المتواجهان على الرقعة الجيوستراتيجية وهما الولايات المتحدة وإيران، ولأسباب مختلفة بل ومتعارضة بدور كبح الحرب ومنع اتساع نطاقها في الشهور الماضية. حرصت طهران وواشنطن على إبقاء المعركة الرئيسية محصورة في قطاع غزّة مع جبهات فرعية تعمل بحسابات دقيقة تمنع انزلاق الأمور لحرب شاملة في المنطقة.

ترك العرب إدارة الأزمة دوليًا للولايات المتحدة تسوقهم – استراتيجيًا - حيث تشاء، وتركوا كل الأدوار الإقليمية لإيران. ربما كان غياب ذلك الدور العربي منذ بدء "طوفان الأقصى" مفهومًا -وليس مقبولًا - في إطار مسلسل "إخراج أنفسهم من التاريخ" المستمر منذ أنور السادات وحتى اليوم. إذ إنّ ممارسة دور فاعل في حماية مصالحهم كبلدان عربية وكجماعة ثقافية تستوجب قدرًا من الخروج على نظام الهيمنة الصارم على العالم العربي الذي أقامته واشنطن عبر متغيرين استراتيجيين رئيسيين هما اتفاق (البترو-دولار) الشهير اقتصاديًا، وخروج مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي عسكريًا وانتهاء دورها القيادي في المنطقة.

ولهذا عندما نتحدث هنا عن دور عربي ممكن في منع عدوان إسرائيلي جديد على لبنان ونتحدث عن غياب هذا الدور حتى الآن، فنحن نتحدث عن دور في إطار ما هو قائم من محدودية الإرادة السياسية والرعب من الخروج على القيد الأمريكي، بل وفي الحالة الإبراهيمية الخروج على القيد الإسرائيلي.

في تقدير الموقف هذا نناقش أولًا ماهية الدور المتاح للعرب لعبه في ردع شن الحرب على لبنان، وندرس ثانيًا لماذا يبقى هذا الدور غائبًا حتى الآن.

الخطر داهم:

بكل المعطيات المتاحة فإنّ حربًا إسرائيلية على لبنان تمثّل حربًا مختلفة عن الراهنة، فاحتمالات تطورها لحرب إقليمية أكبر بكثير من حرب غزّة، فإيران التي كانت طرفًا حاسمًا في كبح جماح جبهات الإسناد من لبنان والعراق وسوريا واليمن لن تلعب هذا الدور عندما يتعلق الأمر بأهم حليف عربي وإقليمي غير حكومي لها وهو "حزب الله"، وهي لم تدع شكًا في أنها ستتدخل عسكريًا إذا ما تعرض لبنان و"حزب الله" لحرب إسرائيلية، وفق ما صرح به قائد القوات البرية الإيرانية، وصدق رئيس هيئة الأركان الأمريكية على هذا الترجيح لانجرار محتمل لطهران وحلفائها الإقليميين.

منطق "عليّ وعلى أعدائي" الذي يستخدمه نتنياهو منذ ٧ أكتوبر سينتقل إلى طهران وبيروت وبغداد ودمشق وصنعاء

بعبارة أوضح، إذا كان نتنياهو يعتقد وهو محق في ذلك إلى حد بعيد أنّ الانتخابات الأمريكية تمثل فرصة تاريخية له لإدخال المنطقة ككل في حرب دون خشية من منع أمريكي جدي له في ظل حاجة الرئيس المتراجع شعبيًا لأصوات المسيحية الصهيونية ولوبي الإيباك التي يسيطر عليها من تل أبيب نتنياهو ومعسكره اليميني المتطرف، فإنّ إيران وحلفاءها العرب في معسكر المقاومة لن يدخروا وسيلة ولا ساحة في الشرق الأوسط لرد الصاع صاعين للأمريكيين والإسرائيليين إلا ويستعملوها.

نحن هنا لا نتحدث إذن عن حرب في حدود فلسطين ولبنان، بل نتحدث عن حرب تصل إلى الجزيرة العربية ومنطقة الخليج.

إذا أذنت هذه الحرب بتدمير بنية "حزب الله" العسكرية وخرجت عن السيطرة بتدافع الأمور لتدمير البرنامج النووي أو القوة التقليدية لإيران، فإنّ منطق "عليّ وعلى أعدائي" الذي يستخدمه نتنياهو منذ ٧ أكتوبر/تشرين الأول سينتقل إلى طهران وبيروت وبغداد ودمشق وصنعاء.

ستكون موانئ ومدن الإمارات والبحرين والسعودية وكامل جيوسياسي البحر الأحمر وبحر العرب وبحر عمان ميدانًا للتدمير المتبادل حيث تتركز قيادة المنطقة المركزية الأمريكية، وتتركز أهم ثروات العرب والعالم من النفط والغاز.

المصلحة مؤكدة:

لأنّ الخطر مؤكد فالمصلحة العربية في منع الحرب على لبنان مؤكدة، كمثال سنأخذ فقط التأثير المحتمل على السعودية ومصر كأكبر دولتين عربيتين في الوقت الراهن. الأولى توافرت لها بعد سنوات من الجمود ديناميكية سياسية حملها الأمير محمد بن سلمان المفوّض من والده. طرحت هذه الديناميكية تطلعًا علنيًا للعب دور قيادي في الإقليم وطرحت رؤية للنمو الاقتصادي يستهدف وضع السعودية في الدول العشر الأولى اقتصاديًا في العالم خلال عقدين.

هذه الديناميكية بُنيت على خطاب بن سلمان يشترط فيه ابتداءً منع نشوء صراع في منطقة الخليج وشبه الجزيرة يستنزف الموارد السعودية، وهذا يفسر تحركه لإنهاء القطيعة مع قطر ونبذه خيار الحرب مع اليمن والسعي لحل سلمي، واتفاق تطبيع العلاقات مع إيران. كل تلك الخطوات الهامة لجلب الاستقرار من أجل القيادة والتنمية ستكون في مهب الريح حرفيًا إذا شن نتنياهو حربًا على لبنان وانجرفت إليه طهران.

سنوات التبعية لواشنطن أضعفت حتى كفاءات الخيال السياسي ومستوى إدارة الأزمات لدى نخب الحكومات العربية

مصر؛ وإن كانت نخبتها الحاكمة لا تطرح على نفسها دورًا قياديًا، لكن قدرتها على إدارة أزمتها الاقتصادية تحتاج أيضًا قدرًا كبيرًا من الاستقرار الإقليمي، فإذا كانت هذه الأزمة قد ازدادت سوءًا عندما وقعت الحرب الأوكرانية البعيدة فما بالك بتأثير حرب إقليمية كبرى لبلد يعتمد على دعم دول النفط ومساعدات صندوق النقد وموارد ريعية، كلها تتأثر بحالة عدم الاستقرار السياسي في محيطها.

إذن المصلحة مؤكدة وهي ذاتية وبراغماتية وتتعلق بمنافع وشرعية وخطط تنمية واستقرار سياسي ودور في المحيط حتى بتركيبة النظم القائمة وحساباتها القُطرية الضيقة ومصالح نخبتها الحاكمة وتبعيتها الاستراتيجية القائمة لواشنطن.

إذن لماذا يغيب الدور العربي حتى الآن؟

لم تقيد سنوات التبعية لواشنطن والاعتماد التام عليها والتي تتم العام المقبل نصف قرن كامل فقط الإرادة السياسية للحكومات العربية، ولكن أضعفت حتى كفاءات الخيال السياسي ومستوى إدارة الأزمات لدى نخبها.

تبدى ذلك في غياب دور عربي له قيمة رغم تزايد نذر العدوان على لبنان. فالنظام العربي يعمل بطريقة إدراك خيار أو سيناريو واحد للقادم من الأحداث وليس على إدراك سيناريوهات مختلفة. ولهذا فهو عالق في سيناريو وحيد أنّ الحرب لن تقوم في نهاية المطاف لأنّ آخر شيء قد ترغب فيه إدارة بايدن في عام انتخابات الرئاسة هو رؤية نفسها متورطة بصورة أو بأخرى في حرب كبرى بالشرق الأوسط.

السياسة في واشنطن وبالذات في علاقتها المنحازة لإسرائيل لا تتم بطريقة "take it or leave it"، فكم من قرارات حرب أو استيلاء على أراضي اتخذتها إسرائيل، وكانت توجد لها في البداية معارضة بمؤسسة الحكم الأمريكية وسرعان ما تتبدد هذه المعارضة وتتحول إلى تأييد مطلق.

امتداد حريق الحرب المحتلمة سيؤدي حتمًا إلى انقلاب الشعوب على النخب الحاكمة والتهام كل مشروعات النمو القائمة

لم تتأخر الإدارة الأمريكية في منحنا كل الأسباب التي تقول إنها مستعدة للتخلي عن نهج الشهور التسعة السابقة من الحرب في منع اتساعها بالإقليم، والتعاطي مع سيناريو حرب على لبنان. أعلن المسؤلون الأمريكيون بعد زيارة يوآف غالانت أنهم تعهدوا للإسرائيليين بدعمهم عسكريًا وسياسيًا في حال نشوب أي حرب مع لبنان و"حزب الله"، التحفظ الوحيد فقط هو إنها لن تشارك في هذه الحرب بجنود أمريكيين.

إذا عمل العرب فقط على خيار استبعاد الحرب على لبنان أو على خيار أنها لن تتسع بشراء الكذبة الإسرائيلية أنها ستكون حربًا خاطفة وسريعة، فإنهم يعرّضون نظمهم السياسية ومصالح نخبهم الحاكمة لخطر وجودي.

إذا لم يرفعوا صوتهم عاليًا ليصل إلى واشنطن بأنها تعرّض حلفاءها بالمنطقة لخطر داهم، فإنّ امتداد حريق الحرب المحتلمة سيؤدي حتمًا إلى انقلاب الشعوب على النخب الحاكمة والتهام كل مشروعات النمو القائمة، وسيواجه هؤلاء الحلفاء سيناريوهات الفوضى السياسية والإفلاس الاقتصادي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن