بصمات

الغرب وعولمة الحرب

في مقالة هامة بعنوان "عصر الخطر"، كتب الوزير البرتغالي السابق برينو ماسياس في صحيفة " نيو ستاسمان" البريطانية (٢٤ أبريل ٢٠٢٤) أنّ الديمقراطيات الغربية تعيش راهنًا تحديات وجودية غير مسبوقة مرتبطة بالحرب الأوكرانية الدائرة في قلب أوروبا والصراعات المشتعلة في الشرق الأوسط بتأثيرها الخطير على الوضع الدولي. ما يحدث راهنًا، حسب الكاتب، هو أنّ خط الانهيار يمتد من هامش النظام العالمي إلى مركزه، إلى حد انحسار التمييز التقليدي بين القلب والأطراف.

الغرب وعولمة الحرب

من أهم مظاهر الأزمة الأوكرانية أنّ الديمقراطيات الغربية انتقلت من دور شرطي العالم من خلال الوساطة الفاعلة في النزاعات المختلفة الدائرة على الكرة الأرضية إلى دور المحارب المقاتل.

في العراق وأفغانستان، كان التدخل العسكري الغربي يقدّم نفسه بصفته عملية أمنية محضة لمواجهة الإرهاب أكثر من كونه حربًا تقليدية. في حين إنما يجري في أوكرانيا مختلف كليًا، ويعني اشتعال حرب شاملة في قارة لم تشهد النزاعات المسلحة منذ الحرب العالمية الثانية.

الغرب لم يعد قادرًا على فرض رؤيته للأشياء على بقية العالم

يتساءل الكاتب هل انجرفت الولايات المتحدة في حرب أوكرانيا؟ ويجيب بالإيجاب، معتقدًا أنّ الإدارة الأمريكية أصبحت طرفًا في النزاع منذ إعلان الرئيس بوتين استخدام المخزون النووي الروسي أداة ضغط على القوى الغربية للحد من دعمها لسلطات كييف. وما يعنيه هذا الأمر هو تغيّر عقلية الردع النووي لتصبح هذه الأسلحة الفتاكة وسيلة من وسائل الهجوم وليست أداة دفاع قصوى.

تعرّض الغرب في الوقت نفسه لهزيمة اقتصادية مدمّرة، ففشل في تقويض الاقتصاد الروسي الذي حقق قفزة نمو كبرى فاقت كل البلدان الأوروبية، وظهر أنّ المحور الآسيوي الذي اندمجت فيه روسيا قادر على توفير البديل الناجع عن الشراكة مع الغرب.

ولقد شكلت حرب غزّة الراهنة تحديًا آخر للتفوق الغربي، بكشفها عن ازدواجية المعايير في معالجة القضايا الدولية إلى حد تقويض الصدقية الأخلاقية للغرب، بالتنكر لقيم القانون الدولي والرجوع لمنطق العداوة الحضارية المتجاوز والعقيم.

الخلاصة في هذا الباب هي أنّ القوة الأمريكية لا تزال استثنائية وهائلة، إلا أنها تفتقر للموارد الاقتصادية والروحية الضرورية لتجسيد فكرة" النظام الكوني". وقد انعكست نتائج التصويت في أروقة الأمم المتحدة على عزلة الولايات المتحدة في الساحة العالمية. والحقيقة هي أنّ الغرب لم يعد قادرًا على فرض رؤيته للأشياء على بقية العالم، سواء تعلّق الأمر بالحرب الأوكرانية والصراع الدائر في غزّة. ما يجري حاليًا هو عولمة النزعات الدولية المتفجرة في مناطق كثيرة من المعمورة، مع تعدد الشركاء والحلفاء الخارجيين في المناطق المشتعلة، بما يذكّر بأجواء الحربين العالميتين اللتين عرفهما القرن العشرين. والخطر كله هو غياب أي أفق للسلم والتسوية القانونية للنزاعات، بما ينذر بفوضى عنيفة شاملة لا مخرج منها ولا حل لها.

يمكن أن نقدّم ملاحظتين أساسيتين على أطروحة ماسياس هما:

أولًا: أنما نشهده راهنًا هو انحسار مفهوم "الغرب" الذي برز في القرن العشرين ليعني ثلاثة محددات كبرى هي النظام الديمقراطي الليبرالي والمنظومة الصناعية الحرة والنسق المؤسسي الدولي. ومن المعروف أنّ هذه المحددات هي التي قام عليها التحالف الأوروبي - الأمريكي الذي جرى توسيعه لليابان وكوريا الجنوبية. ومن الجلي أنّ المحددات الثلاثة انهارت ولم تعد قادرة على ضبط النظام الدولي في تناقضاته وتحولاته الراهنة.

الخطر الذي يتهدد النظام الدولي الانتقال إلى نوع من "حرب الكل ضد الكل"

ثانيًا: لقد كشفت الحرب الروسية - الأوكرانية بمخلّفاتها الهائلة أنّ الخطر الذي يتهدد النظام الدولي ليس العودة المستحيلة لمنطق الحرب الباردة، بل الانتقال إلى نوع من "حرب الكل ضد الكل" بالمنظور الهوبزي القديم الذي يعني الفشل القيمي والقانوني في تمديد قيم السلم الأهلي والمواطنة المدنية إلى الساحة الدولية الواسعة التي لا تزال تعيش في حالة الطبيعة المأساوية والمدمّرة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن