وجهات نظر

الحكومة المصرية الجديدة .. "ثلج مسلوق"!

في اللغة الإنجليزية تعبير مكوّن من كلمتين اثنتين تناقضان بعضهما لدرجة تصدم أذن وعقل المستمع أو القارئ فينتبه وتستيقظ حواسه، الكلمتان هما "boiled ice" وترجمتهما الحرفية "ثلج مسلوق"، ويُستخدمان عندما يريد المتحدث أو الكاتب أن يختصر كلامًا كثيرًا في وصف استحالة ولا معقولية أمر ما، فالثلج طبعًا إذا حاولت سلقه لا يمكن أن يبقى ثلجًا وإنما فورًا بمجرد أن يقترب من حرارة النار يسيح ويتغيّر قوامه ويفقد كتلته المتجمدة ويستحيل ماءً سائلًا، ثم كان الله بالسر عليمًا.. أليس كذلك؟!

الحكومة المصرية الجديدة ..

المصريون هذه الأيام مدعوون لوجبة "ثلج مسلوق".. كيف؟، إنهم ينتظرون - أو يُفترض أنهم ينتظرون - تعديلًا وزاريًا جديدًا يخرج فيه وزراء أتوا من المجهول والعدم التام وأغلبيتهم الساحقة سيخرجون وهم على الحال نفسها لا يكاد يعرف بأسمائهم أحد، وسيأتي خلفاء لهم على الشاكلة نفسها غالبًا.

الدعوة لهذه الوليمة انطلقت حين استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل نحو شهر - بعدما جُدد له لمدة رئاسية ثالثة - رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، وقدّم هذا الأخير استقالته مع وزارته للرئيس، الذي بدوره أعاد في التو تكليف مدبولي بالبقاء في منصبه وطلب منه إعادة تشكيل الوزارة.. ومن ما يزال يتذكر وجود "وزارة" تحكم فعلًا في البلاد ينتظر رؤية هذا التعديل ومن ثم التمتع بوجبة "الثلج المسلوق" الموعودة.

الوزراء ورئيسهم مجرد سكرتارية ينفّذون أوامر الرئيس وقرارته التي يُصدرها أحيانًا فجأة وعلى الهواء مباشرة

بعض أبواق النظام لم يخجل ولا اهتز له جفن وهم يبشرون الناس بأنّ التشكيل أو التعديل الوزاري الجديد سوف يأتي لهم بالخير الوفير وسوف تنتهي مشاكل وأزمات وانهيارات وكوارث لم تعرف لها البلاد مثيلًا في كل مراحل تاريخها الحديث.

كما لم يخلُ الأمر، في غمرة الحماس التبشيري، من ظهور بعض هذه الأبواق وقد تزيّنوا بشجاعة لم يراهم الناس بها أبدا، وراحوا يحَمّلون هذا الوزير أو ذاك المسؤولية عن أزمة أو كارثة ما - وما أكثرها -، وأوحى نفر من هؤلاء المصابين بالشجاعة المؤقتة لمستمعيهم أو قرائهم - إن وجدوا - بالكلام عن أنّ الوزير الفلاني بالذات لو ذهب من حيث أتى فسوف يصبح المصريون في رغد من العيش، ومن بعد الضَنى والجوع سيرتدون ويرفلون في الحرير وسيأكلون أطايب الطعام، وستكون الحياة عمومًا وردية جدًا!!.

طبعًا هذه الأبواق تجاهلت تمامًا حقيقة أنّ مصر ليس فيها حاليًا من يحكم ويتحكّم، سوى الرئيس وحده، وأنّ الوزراء ورئيسهم مجرد سكرتارية في أفضل الأحوال، ينفّذون أوامر الرئيس وقرارته التي يُصدرها أحيانًا فجأة وعلى الهواء مباشرة (!!).

هذا يحدث بينما الدستور المصري الحالي يعطي لمن يتولى منصب رئيس الوزراء ومجلسه الوزاري اختصاصات وسلطات، خصوصًا في ما يتعلق بالسياسات الداخلية، تكافئ إن لم تزد على اختصاصات الرئيس، لكن النظام الحالي فرض بقوة الأمر الواقع، وضعًا ليس فيه حتى تلك الألاعيب والمراوغات القديمة التي عرفها وتعوّد عليها المصريون سابقًا، وتهدف إلى التحايل على نصوص دستورية آمرة وصريحة، بل جرت عادة النظام الحاكم الآن على تجاهل وجود الدستور أصلًا وأساسًا.

ستمضي أيامنا من سواد إلى سواد أشد ولن يُغيّـر وزراء مجهولون جدد ما لم يفعله المجهولون القدماء

غير أنّ وليمة "الثلج المسلوق" تلك تأخرت جدًا، فرغم مرور شهر بأكمله تقريبًا على الوعد بها إلا أنّ شيئًا لم يحدث للآن، إذ لم يفلح الطباخون في تجهيزها وطبخها، وتواترت أنباء وتسريبات كثيرة عن أنّ عشرات الأشخاص، رشحوا لمناصب وزارية لكنّ عددًا كبيرًا منهم رفض أو اعتذر، غالبًا لأنّ القاصي والداني في البلاد بمن فيهم المجهول والمعلوم يعرفون جميعًا طبيعة المهمة أو اللامهمة المكلفين بها وهي الجلوس على مقعد وثير في مقر الوزارة ينتظرون الأوامر التي تهبط على رؤوسهم فجأة!.

هذا فضلًا عن أنّ ملايين المصريين المدعوين لهذه الوليمة الوهمية لا يعيرون أمر التغيير الوزاري المزعوم أدنى اهتمام، ولسان حالهم يقول "لا شيء سيتغيّر" إنما الحال سيبقى هكذا وستمضي أيامنا السوداء كما هي، من سواد إلى سواد أشد، ولن يُغيّر وزراء مجهولون جدد ما لم يفعله المجهولون القدماء.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن