ثقافة

صرخة شكيب أرسلان "الغائبة الحاضرة" في الفكر العربي المعاصر

التفاعل مع بعض أحداث الساحة، والتي قد تبدو غير ذات أهمية عند أهل الفكر والتنظير الذي يروم إصلاح أحوال المنطقة العربية، يكشف عن مفارقات ويمدنا بمفاتيح لقراءة أسئلة الإصلاح والنهضة العربية من جهة، والتفكير بالتالي في البحث عن أجوبة نافعة تأخذ مسافة من الخطاب الاختزالي الذي هيمن على إصدارات العقل العربي طيلة عقود مضت، كما تنتصر لخيار المقاربات النظرية المركّبة، إذا استعرنا أطروحة المفكر الفرنسي إدغار موران الشهيرة حول "الفكر المركّب"، والتي اقترب من أفقها النظري، الراحل عبد الوهاب المسيري، في معرض حديثه عن أهمية العمل بنماذج تفسيرية مركّبة، وأخذ مسافة من نماذج تفسيرية أحادية أو اختزالية.

صرخة شكيب أرسلان

بين أيدنا نموذج تطبيقي مركّب أو قُل متشابك حول ما أشرنا إليه أعلاه، وعنوانه تنظيم نهائيات كأس أوروبا لكرة القدم في ألمانيا، طيلة أسابيع.

التفاعل الذي يهمنا في هذا السياق، والذي يبدو عاديًا أو لا يثير اهتمام أهل النظر، جاء من خلال تدوينة نشرها مدوّن مغربي على حسابه الشخصي في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وهو الذي يحرر غالبًا في قضايا تهم الحقلين الرياضي والسينمائي على الخصوص، وبين الفينة والأخرى، ينشر آراءً حول قضايا أوضاع الساحة، مع حضور العين السوسيولوجية.

جاء في التدوينة بنقرة وريد محجوب ما يلي: "كلّما حلّت مناسبة كأس أمم أوروبا، أعيد طرح السؤال التاريخي الذي طرحه شكيب أرسلان في بداية القرن الماضي: لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم" (التدوينة مؤرخة في 21 يونيو/ حزيران 2024).

سؤال شكيب أرسلان صدر منذ قرن تقريبًا ولا زالت أقلام المنطقة العربية تدور في فلك السؤال نفسه

في اليوم نفسه الذي صدرت فيه التدوينة، نشر الباحث مصطفى راجعي مقالًا في هذه المنصة، تحت عنوان "هل أصبح الغرب غنيًا بفضل الاستعمارية؟" (صدر الجزء الثاني من المقالة أسبوعًا تقريبًا بعد ذلك)، ومن أفكار المقالة، تقويض الرأي السائد على سبيل المثال في المنطقة العربية، مفاده أنّ نظرية "الغرب الرأسمالي ازدهر بفضل السياسة الإمبريالية الاستعمارية"، انطلاقًا من مضامين تقرير بحثي جديد، يُحسب للباحث وللمنصة التعريف به للقارئ العربي، والحديث عن تقرير صدر في مايو/أيار 2024 عن معهد الشؤون الاقتصادية بلندن لكبير الباحثين الاقتصاديين كريستيان نيميز.

منذ ثلاث سنوات، صدرت الترجمة العربية لكتاب ألّفه الباحث التركي أحمد كورو تحت عنوان "الإسلام والسلطوية والتأخر: مقارنة عالمية وتاريخية"، وتفيد الأطروحة الرئيسية للكتاب أنّ أسباب التخلّف في العالم الإسلامي لا علاقة لها بالاستعمار ولا بالتراث الإسلامي العقدي والفقهي، وإنما تكمن حسب المؤلف، في ما اصطُلح عليه تحالف العلماء مع السلطة السياسية. (!) وهذه لازمة تتكرّر كثيرًا في الكتاب، وليس هذا مقام الاعتراض عليها أو مناقشتها، خاصّة أنّ المؤلف بذل جهدًا نظريًا كبيرًا في البرهنة على هذه الفرضية، ولا يمكن تقويض الجهد نفسه بإشارات في مقالة، لأنّ الأمر يتطّلب دراسة على الأقل، إن لم نتحدث عن كتاب لا يقل أهمية عن مضامين كتابه هذا.

القاسم المشترك بين التدوينة والمقالة والكتاب، عنوانه المساهمة في تقديم أجوبة على السؤال الأرسلاني أعلاه: لماذا تأخّرنا وتقدّم الغير؟ وتزداد قتامة التفكير في السؤال، عندما نستحضر أنّه سواء تعلّق الأمر بالتدوينة والمقال، فقد صدرا في منتصف 2024، بينما سؤال شكيب أرسلان صدر في سنة 1930، أي منذ قرن تقريبًا، وبالرغم من ذلك، لا زالت أقلام المنطقة العربية تدور في فلك السؤال نفسه، بعد كل هذه المحطات.

أزمات الفكر العربي المعاصر مركّبة على أكثر من صعيد وفشل المشاريع الإصلاحية في المنطقة لا يمكن أن يكون صدفة

صدر الكتاب ست سنوات تقريبًا بعد أفول "الخلافة العثمانية"، وصدر الكتاب كما هو معلوم، في حقبة مرور العديد من دول المنطقة من حقبة الاستعمار أو الانتداب، قبل الحصول لاحقًا على الاستقلال، وقدوم أحداث 1979 المركّبة (اقتحام الحرم المكي في السعودية، الغزو السوفياتي لأفغانستان، الثورة الإيرانية)، وبعدها حرب الخليج الأولى (بين العراق وإيران) وحرب الخليج الثانية (بعد الحرب العراقية الكويتية، وتلاها الغزو الأمريكي للعراق)، وأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، ثم أحداث 2011 في المنطقة، وأخيرًا وليس آخرًا، تبعات أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

أزمات الفكر العربي المعاصر مركّبة وعلى أكثر من صعيد، وفشل العديد من المشاريع الإصلاحية في المنطقة، لا يمكن أن يكون صدفة، أيًا كانت مسبباته المركّبة بالطبع، لكن هذا الإصرار على اختزال قراءة أسباب الأزمة أو قُل أسباب التخلّف، من منظور إيديولوجي صرف، يوجد في مقدّمة تلك الأسباب، وهذا الأفق النظري المركّب، هو عين ما تعاني منه أغلب المشاريع الفكرية في المنطقة العربية.

ولو توقفنا عند المثال الإيديولوجي المجسّد في المرجعية الإسلامية الحركية، أو مرجعية "الإسلام السياسي"، وبعد مرور قرن على أفول "الخلافة"، من يصدّق أنه في 29 يونيو/حزيران 2014، سوف يعلن أبو بكر البغدادي عن "الخلافة الإسلامية"؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن