اقتصاد ومال

كارل ماركس وآدم سميث.. ومعضلة "الكونغو البلجيكية"

استعرضنا في مقالة أولى و ثانية بعض أطروحات ماركس - وليامز حول دور اقتصاد المستعمرات في بناء الرأسمالية في بريطانيا، مع العروج على تحليل التكلفة - المنفعة الذي قدّمته دراسة بريطانية جديدة صدرت في أيار/مايو 2024، وخلُصت إلى أنّ المستعمرات البريطانية لم يكن لها أثر على الدخل القومي البريطاني، بل بالعكس من ذلك، لأنّها أثقلت كاهل دافعي الضرائب بأكبر ميزانية للإنفاق العسكري في أوروبا في تلك الفترة، مما أعطى مصداقية للنظرية الليبرالية.

كارل ماركس وآدم سميث.. ومعضلة

سوف نتطرق في هذه المقالة إلى عجز النظرية الماركسية، والليبرالية، عن تفسير ما جرى مع النموذج الاستعماري البلجيكي في الكونغو.

فرنسا: فشل الاستعمارية الجبائية

كانت فرنسا ثاني قوة إمبريالية بعد بريطانيا خلال القرن 19 وبداية القرن 20، وكانت جل مستعمراتها أفريقية (خاصّة في شمال وغرب أفريقيا) وشملت أجزاء من آسيا ومنطقة الكاريبي. وشهدت التجارة الاستعمارية بين 1920 و1950 بعض الانتعاش حيث ارتفعت الواردات من المستعمرات الفرنسية (من 13 بالمئة الى 27 بالمئة) والصادرات الفرنسية من المستعمرات (من 17 بالمئة الى 37 بالمئة) وهي أعلى الأرقام مع نهاية الإمبراطورية في نهاية 1950.

حرمت فرنسا نفسها من التطوّر الصناعي بسبب السياج الجمركي الذي فرضته على المستعمرات

أدمجت فرنسا كل مستعمراتها في إطار اتحاد جمركي يشجع التجارة بين المستعمرات ويقيّدها مع البلدان الأخرى خارج فرنسا بوضع قيود جمركية (ضرائب وحصص) وهو الأمر الذي ساهم في توسيع السوق الفرنسية لكن كان له نتائج سلبية على الاقتصاد الفرنسي، حيث حرمت فرنسا نفسها من الحصول على سلع متوفرة بأسعار تنافسية خارج مستعمراتها. كانت الخمور والحبوب والقهوة والأرز والكوكا والزيوت أهم الواردات من المستعمرات الفرنسية لكن تلك السلع كانت متوفرة بوفرة في السوق العالمية وبأسعار تنافسية. كما حرمت فرنسا نفسها من التطوّر الصناعي بسبب السياج الجمركي الذي فرضته على المستعمرات. لقد كانت الاستعمارية الفرنسية سياسة حمائية جبائية خاسرة.

ألمانيا: فشل الاستعمارية الديمغرافية

لم تصبح ألمانيا ثالث قوة استعمارية بعد بريطانيا وفرنسا إلّا في 1880 بعد أن تحوّلت إلى دولة - أمّة في 1871، وتأخرت في ذلك بسبب موقف العاهل فون بيسمارك الذي كان غير مقتنع بفائدة السياسة الاستعمارية.

كانت لألمانيا مستعمرات أفريقية (خاصّة الطوغو والكاميرون وغينيا الجديدة ومناطق أخرى في غرب أفريقيا وشرقها)، إلّا أنّها كانت مكلّفة وغير مُربحة. ووِفق إحصائيات 1912 وبحساب ما تمّ إنفاقه على المستعمرات وبطرح ما حققته من مداخيل كانت النتيجة سلبية بخسارة 23 مليون ريشمارك إلى غاية 1912.

شكّلت المستعمرات الأفريقية أقل من 1 بالمئة من الصادرات الألمانية وأقل من 0.5 بالمئة من الواردات الألمانية وليس أكثر من 2 بالمئة من الاستثمارات الألمانية في الخارج. كما فشلت السياسة الألمانية في تشجيع هجرة الألمان إلى المستعمرات حيث لم يتجاوز السكان البيض في المستعمرات الأفريقية 20 ألف شخص.

في حالة ألمانيا، لا يمكن أن تكون المستعمرات سببًا في تصنيع البلد حتى لو حققت أرباحًا لأنّ التصنيع في ألمانيا كان سابقًا على امتلاك المستعمرات، بل كانت الاستعمارية الألمانية فاشلة على جميع الصعد الاقتصادية والديمغرافية، وفي الأخير صدق بسمارك في اعتقاده بعدم جدوى السياسة الاستعمارية.

بلجيكا: قصة مأساة مربحة وفشل ماركس وأدم سميث

الكونغو البلجيكة (1885) كانت أقرب مثال عن المستعمرة كبقرة حلوب، لقد كانت مفيدة لبلجيكا حتى لو كان المستفيدون أقلية متمركزة، وهي مثال مضاد للنظرية الليبرالية التي تقول إنّ المستعمرات دائمًا تكلّف أكثر مما لديها منافع. كانت المستعمرة الأفريقية نافعة ومربحة لكن كلفتها البشرية كانت عالية إذ مات 10 ملايين من المحليين وجلبت تلك المجازر إدانات دولية واسعة ضد بلجيكا.

البرلمان البلجيكي رفض دعم المستعمرة وفرض على الملك أن يقوم بأنشطته باسمه وليس بلجيكا

حَوّل الملك ليوباد الثاني الكونغو لملكية خاصة وأُجْبِر السكان على العمل في جمع العاج والمطاط وهي سلع نادرة وحقّقت شركاته أرباحًا كبيرة، ولكن البرلمان البلجيكي رفض دعم المستعمرة وفرض على الملك أن يقوم بأنشطته هذه باسمه الشخصي وليس بلجيكا.

وفي بداية القرن 19 كانت عائدات الاستثمارات من المستعمرة البلجيكية أعلى بكثير من عائدات الاستثمار داخل بلجيكا. كانت عائدات المناجم الكونغولية من أعلى العائدات المنجمية في العالم ولم تتوقف العائدات وتضطرب إلّا في 1950 مع عدم الاستقرار في المستعمرة وبدأت قيمة الأصول في الانهيار. لقد كان إسهام مستعمرة الكونغو البلجيكية مُهمًا في الاقتصاد البلجيكي.

مثال الكونغو البلجيكية يُبيّن أنّه يمكن أن تكون المستعمرة مربحة وهذا يناقض النظرية الليبرالية لآدم سميث وريتشارد كوبدن التي تفيد بأنّ المستعمرات غير مربحة.

ورغم كل هذا، فإنّ حالة الكونغو البلجيكية لا تؤيّد نظرية ماركس - وليامز حول إسهام المستعمرات في تمويل الرأسمالية، لأنّ بلجيكا كانت بلدًا غنيًا ورأسماليًا مصنّعًا قبل أن تكون لديها سياسة استعمارية وقبل أن تطأ أيّ رجل بلجيكية أرض الكونغو.

التجارة والصناعة من العوامل الأساسية لارتفاع الدخل القومي في أوروبا وليست الإمبريالية أو الإمبراطورية أو الاستعمار

لم يكن الغرب كله استعماريًا، فسويسرا على سبيل المثال، بلدٌ غربيٌ غير استعماري، تحوّل إلى بلد غني صناعي دون أن يكون له أيّ مستعمرات. كما أنّ بلدانًا أخرى مثل السويد والدنمارك والنمسا التي لها مستعمرات صغيرة كانت بلدانًا غنيةً قبل الحصول على المستعمرات. ولإسبانيا والبرتغال تاريخ استعماري طويل لكن ظلت بلدانًا ذات دخل تحت المتوسط الأوروبي.

الاستعمارية لم تجعل الغرب غنيًا وصناعيًا بالضرورة، ولم يكن للمستعمرات أيّ دور في الرأسمالية الغربية، ولكن التجارة مع البلدان الغنية والصناعة التي رفعت الإنتاجية كانت من العوامل الأساسية لارتفاع الدخل القومي في أوروبا، وليست الإمبريالية أو الإمبراطورية أو الاستعمار، كما نردّد في العالم العربي، بل لا زلنا نعتقد أنّ الغرب تقدّم على حسابنا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن