تصاعدت المحاولات لتحدي هيمنة الدولار، بعد الحرب الأوكرانية، فهناك جهود روسيا لاعتماد الروبل واليوان الصيني كعملتين للتجارة الدولية، التي أثمرت عن تداول معظم تجارة موسكو لا سيما في الطاقة بهما.
كما أنّ هناك حديثًا بدول مقرّبة للغرب عن مساعي لإيجاد بديل أو مواز للدولار، مثل تلك التي يدعو إليها الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.
وجرت نقاشات بين السعودية والصين لتداول النفط باليوان، وبين الإمارات والهند للتعامل بالروبية والدرهم.
كما تقوم الصين وروسيا بخطوات بطيئة ولكن مؤسّسية لإكساب اليوان والروبل الطابع الدولي، وإيجاد مسارات موازية للأنظمة المالية التي يقودها الغرب، مثل تأسيس بكين لنظام لتجميع احتياطات باليوان، بمشاركة بنوك مركزية رئيسية بآسيا، إضافة لعملة تجمع البريكس المقترحة.
الدولار = الجيش الأمريكي
منح الدولار الولايات المتحدة أحد أهم عناصر قوتها، فبينما لا يستطيع الجيش الأمريكي الذهاب لأي نقطة يريدها بالعالم، فإن الدولار قادر على ذلك.
إذ جعلت هيمنة الدولار، واشنطن قادرة على حظر أية معاملات مصرفية لأي جهة عبر نظام "سويفت" للتحويلات المصرفية، وبالتالي إلزام بقية دول العالم بمقاطعتها.
كما مكّن الدولار القوي واشنطن من تحقيق رخاء استثنائي، وساهم ضمن أسباب أخرى بجعل الحياة رخيصة في أمريكا مقارنةً بالدول المتقدّمة الأخرى عبر استيراد السلع بالدولار.
وأتاحت هيمنة الدولار لواشنطن تمويل عجوزاتها الهائلة بالميزانية والتجارة الخارجية، (بما في ذلك ميزانية الجيش الأمريكي)، عبر طبع الدولارات بدون غطاء.
فهي تشتري منتجات العالم مقابل هذه الورقة الخضراء التي لا تكلّفها سوى الطباعة، والتي لا تسبّب لها مشكلة عكس ما يحدث عندما تطبع أي دولة عملتها دون غطاء سلعي.
وساعد ذلك أيضًا في تلقي سندات وبورصة أمريكا، استثمارات خارجية هائلة باعتبارها المركز المالي العالمي.
وخلق ذلك ربحية هائلة للنخبة المالية الأمريكية، أكبر من الموارد الأمريكية الذاتية.
من مخاطر هيمنة الدولار، أنه يقبع فوق هرم من العجز المتراكم الذي لا يُعرف متى يتهاوى
كما أنّ واشنطن تقذف عادةً بعبء مشكلاتها الاقتصادية على بقية العالم، مثلما فعلت عندما فاجأت حتى حلفائها بإزالة غطاء الذهب عن الدولار عام 1973 متسببةً بانهيار قيمة مدخراتهم، أو برفع الفائدة مؤخرًا، لتشعل أزمة ديون بعدة دول نامية.
ولكن كان هناك جانب سلبي للدولار القوي لأمريكا، أنه أضعف مع عوامل أخرى، الصناعة المحلية التقليدية مثل الصلب والسيارات، وحوّلها إلى مستورد صاف، وسوق العالم الشره، وجعلها ذلك لعقود صاحبة أكبر عجز تجاري في العالم الذي وصل إلى (945.3) مليار دولار في 2022.
وهنا تكمن واحدة من مخاطر هيمنة الدولار، أنه يقبع فوق هرم من العجز المتراكم الذي لا يُعرف متى يتهاوى.
وبالفعل، يتخلّى العالم ببطء عن الدولار، إذ انخفضت حصته باحتياطيات البنوك المركزية من نحو 70٪ في 1999، إلى 58.36٪ في 2022 (بانخفاض 8% عن 2021)، ويحلّ اليورو ثانيًا بنسبة 20.5٪ واليوان الصيني بنسبة 2.7٪ فقط.
ويُستخدم الدولار بنسبة 84.3% من التجارة الدولية في 2022، مقابل 4.5% لليوان، ولكن الدولار يمثل ما يقارب الـ100% من تجارة النفط الدولية (نسبة يحتمل انخفاضها بعد تخلي روسيا عنه).
ولكن لماذا تحتاج بعض الدول لبديل للدولار، وهل يحل ذلك مشكلاتها الاقتصادية؟
بدائل الدولار، لن تحلّ مشكلات الدول التي تعاني من أزمة عملة، لأنّ أزماتها نابعة من ندرة الإيرادات الخارجية، وستكون هذه العملات بالتالي ضعيفة أمام أي عملة دولية بديلة.
ولكن استخدام العملات الوطنية عبر الحدود يقلّل الخصومات الناتجة من تكرار تحويلات الدولار للعملات المحلية، أما العملة الدولية البديلة، فلن تغيّر مقدار خسائر التحويلات كثيرًا.
غير أنّ ميزة منافس الدولار الأهم، هي تقليل استخدام أمريكا له ضد خصومها (تسليح الدولار الذي تصاعد بعد حرب أوكرانيا).
من ينافس الدولار؟
رغم مكانة اليورو الدولية، فإنه ليس منافسًا جيوسياسيًا للدولار، لأنه يصدر من كيان ليس بدولة (العملة تحتاج لجيش يحميها)، كما أنّ الاتحاد الأوروبي تجمّع لدول حليفة لواشنطن.
ولذا يظلّ اليوان المرشح الأبرز لمنافسة الدولار، لأنّ الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والأولى بإنتاج السلع واستيراد الطاقة.
ولكن هناك عراقيل تبطئ صعود اليوان، منها قلّة المعلومات بشأن اقتصاد الصين المالي، والأهم أنّ عجوزات أمريكا الكبيرة يعني أنّ لديها القدرة والحوافز لتصدير الدولار للعالم لسدّ هذا العجز، عكس الصين.
الصين أكبر مستفيد اقتصاديًا من قوة الدولار، وروسيا الداعم الأكبر لليوان
الأهم أنّ قوة الدولار مقابل اليوان، مصلحة اقتصادية صينية لأنه يخفض أسعار صادراتها، لأنّ نمو اقتصادها مدفوع بالتصدير، عكس نمو أمريكا المستند للاستهلاك، فواشنطن أكبر سوق لبكين التي صدّرت سلعًا بقيمة 382.9 مليار دولار في 2022، خالقةً 32.4 % من العجز التجاري الأمريكي.
ولكن مع احتدام تنافس البلدين أو بالأحرى التحرّش الأمريكي بالصين، فإنّ صعود اليوان هو مصلحة استراتيجية صينية، لأنّ هيمنة الدولار، تعني قدرة أمريكا أن تفعل ببكين ما فعلته بموسكو، خاصةً لو استغنى الغرب عن دورها بسلاسل التوريد، وهو ما يحدث تدريجيًا.
ولهذا السبب فإنّ الصين تتروى في الصعود باليوان، فهي لا تريد تقويته أمام الدولار بطريقة تضرّ بصناعاتها، ولكنها بالوقت ذاته تحاول بناء الأنظمة الدولية اللازمة لهذا التحوّل، بحيث إذا بدأت واشنطن وحلفاؤها إحكام الطوق عليها يكون لديها قنوات لجعل اليوان بديلًا.
وفي الأغلب هذه العملية ستتم ولكن ببطء، في ظل الانفصال الاقتصادي التدريجي بين البلدين، كما أنّ اليوان يكتسب زخمًا من روسيا صاحبة أكبر فائض بين دول العالم بالتجارة الدولية.
موقف الدول العربية، وكيف ستتأثر بصعود منافس للدولار؟
إنهاء سريع لهيمنة الدولار، سيضرّ بالعملات الخليجية المرتبطة به، وبالأكثر بالاحتياطات والاستثمارات الخليجية بالعملة الأمريكية.
ولكن المفارقة أنّ عملية إنهاء هيمنة الدولار، قد تكتسب زخمًا إذا انضمّت لها الدول العربية النفطية، لأنّ جزءًا كبيرًا من قوته، نابع من كونه عملة تداول النفط، الذي يعدّ من أكبر السلع تداولًا وأهمية.
يعني ذلك أنّ قرارًا خليجيًا صينيًا مشتركًا سيهدّد الدولار، ولكن هذا مستبعد، في الظروف الحالية.
يمكن أن يصبح العالم العربي من ضمن ساحات التقاء تجمّعي اليوان والدولار
السيناريو الأرجح، هو تحوّل العالم تدريجيًا، لتجمّعين متوازين، أحدهما يقوده الدولار، والآخر، اليوان مع عملات أخرى أو لديه خيار التعامل بالعملات المحلية مع إمكانية التداول والتنقّل بين التجمّعين.
ومن شأن مشاركة الدول العربية في صياغة هذا التحوّل أن تستفيد من هذا النظام الجديد مع تجنّب تضرّر الدول العربية النفطية تحديدًا من تراجع سريع للدولار، عبر تحوّل تدريجي يتيح تغيير شكل أوعيتها الاستثمارية.
كما يمكن أن يصبح العالم العربي من ضمن ساحات التقاء تجمّعي اليوان والدولار المحتملين، وستكون مشكلة العرب الأكبر هي تقبّل واشنطن لمشاركتهم بهذا العالم الثنائي في ظل عودتها لشعار "من ليس معي فهو ضدي".
(خاص "عروبة 22")