تقدير موقف

مشكلة تركيا في سوريا

واجهت تركيا في الأسبوعين الأخيرين ثلاثة أحداث مهمة فيما يتعلق بسياستها في القضية السورية، أولها إعلان تركيا عن بدء مرحلة جديدة من التطبيع مع نظام الأسد، تبدأ من اجتماع قريب في بغداد بين ممثلين عن تركيا وممثلين عن نظام الأسد برعاية الحكومة العراقية، يمهد للقاء قمّة بين أردوغان والأسد، والحدث الثاني اندلاع موجة جديدة من أحداث عنصرية ضد السوريين في تركيا، بدأت في قيصري، ثم انتقلت نحو ولايات أخرى بينها غازي عينتاب صاحبة أعلى رقم من المقيمين السوريين في المدن التركية.

مشكلة تركيا في سوريا

أما الحدث الثالث والأهم، فكان هبّة الشمال السوري في مواجهة تركيا ووجودها هناك. حيث اندلعت تظاهرات في مناطق متعددة، صاحبتها شعارات طالبت بفك السيطرة التركية عن الشمال السوري، وإعادة ضبط العلاقات بين الطرفين بصورة مختلفة عمّا تكرّس في السنوات الـ12 الماضية، ورافقت التظاهرات ممارسات سلبية حيال تركيا والأتراك منها إهانة العلم التركي، والاعتداء على شاحنات تركية وسائقي نقل أتراك.

لا يشكّل الحدثان الأول والثاني جديدًا. ذلك أنّ التوجه التركي نحو التطبيع مع نظام الأسد مطروح منذ عامين، وقيل فيه الكثير، وتدخلت فيه أطراف متعددة، لم يستطع الداعمون له تحقيق تقدّم فيه، ولا استطاع معارضوه منع تداوله وطرحه على العلن مرّة جديدة. والحدث الثاني مكرّر مرات ومرات في السنوات الخمس الماضية، التي تصاعدت فيها الحملة العنصرية على السوريين عبر سيل من الاتهامات المزعومة غالبًا، ترافقت مع الاعتداء عليهم حد القتل، وتدمير ممتلكاتهم، وطالبت بترحيلهم من تركيا، ووسط موقف رسمي لا معنى له، كانت عمليات ترحيل السوريين "الطوعية" تتواصل بكثافة في ظل أسوأ أشكال العنف والابتزاز الرسمي.

المؤشر الرئيس للتطبيع مع نظام الأسد لا يشير إلى أي مكسب تركي قريب سوى أنه يُسكت أبواق المعارضة التركية

وفي ظلّ تلك الأجواء، جاءت هبّة الشمال السوري، لتكون الحدث الجديد الأهم والأكثر حساسية باعتبارها نقطة تحوّل في مسار العلاقات التركية - السورية، التي رسمت تركيا ملامحها وتفاصيلها على مدار السنوات الـ12 الماضية سواء في فترة السياسة المقنّعة بالدعم والشراكة ما بين 2011 و2015، أو في فترة سياسة السيطرة المكشوفة، التي بدأت عمليًا في أعقاب التدخل العسكري الروسي عام 2015 الذي سجّل انهيار قوى المعارضة المسلّحة، وإحكام قبضة أنقرة على ما تبقى من الجماعات المسلّحة وعلى الائتلاف وحكومته المؤقتة، إضافة إلى سيطرتها المؤكدة على "هيئة تحرير الشام" ("النصرة" سابقًا) وحكومة الإنقاذ التابعة لها في إدلب.

ووفق الوقائع المعروفة، فإنّ قضية التطبيع مع نظام الأسد، وقضية ترحيل السوريين من تركيا، تحوّلتا إلى ملفين في السياسة الداخلية في شقها المتصل بالسلطة ومسار العلاقات بين الجماعات السياسية في تركيا بما فيها من صراعات وتوافقات، وليس باعتبارها جزءًا من قضية استراتيجية ترتبط بالمصالح العامة للدولة والشعب التركي، لأنّ المؤشر الرئيس للتطبيع مع نظام الأسد، لا يشير إلى أي مكسب تركي قريب سوى أنه يُسكت أبواق المعارضة التركية الهشة، والحال متكرر في قضية ترحيل السوريين التي لها تداعيات سياسية واقتصادية راهنة، وتترك آثارًا سوداء في مستقبل علاقات بلدين وشعبين محكومين بالجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة على امتداد حدود تقارب الألف كيلومتر.

وامتد خطأ تحويل القضية السورية في ثلاثة من مفاصلها: السوريون في تركيا والتطبيع مع الأسد والموقف من أكراد "قسد" في سوريا، إلى قضية داخلية، لتفرض نفسها في طريقة وشكل التعامل مع منطقة شمال شرق سوريا، الموصوفة بمنطقة السيطرة التركية، حيث جرى تحويل كيانات سياسية ومسلّحة هناك إلى سلطات أمر واقع، يدير قسمًا منها الائتلاف الوطني وحكومته المؤقتة، وتتولى "هيئة تحرير الشام" وحكومة الإنقاذ التابعة لها القسم الثاني، ويتشارك الطرفان في تكريس الاستبداد والفساد، وتردي مستويات الحياة وشروطها، واستباحة حقوق السوريين، وسط مساعي الهيئة نحو تكريس "إمارة إسلامية" متشددة.

هل تستطيع تركيا فهم محتوى هبّة الشمال ومعناها والتفاعل الإيجابي معها؟

وإذا كانت هبّة الشمال السوري، تقاربت زمنيًا مع الحدثين الأخيرين، فإنها استغلت مجريات الحدثين لإطلاق تظاهراتها وإعلان معارضتها سياسة تركيا في القضية السورية، وفي ممارسات وكلائها في الشمال السوري، لأنّ شروط انطلاقتها كانت قائمة، والتي على أساسها فتحت باب معركة الشمال السوري مع "هيئة تحرير الشام" وزعيمها الجولاني المستمرة منذ أشهر.

خلاصة الأحداث الأخيرة، وتفاعلاتها ولا سيما في شمال شرق سوريا، تضع سياسة تركيا في سوريا في مواجهة إشكالاتها، وأساسها مشاكل مستمرة ومتصاعدة، ولا تتوفر لها حلول حتى في الموضوعات التي تملك الحكومة التركية القرار فيها، وهذا يتطلب إعادة تقييم السياسة التركية، ولا سيما في منطقة سيطرتها، وأول ضروراتها إقامة إدارة سورية مقبولة فيها، قادرة على توفير حياة أفضل لسكانها، مما يؤهل الشمال ليكون مفصلًا فارقًا في حياة السوريين، وتأثيرهم في القضية السورية، وتعزيز دور تركي يلبي المصالح المشتركة للطرفين. والسؤال الأساسي الذي تطرحه هبّة الشمال جوهره: هل تستطيع تركيا فهم محتوى هبّة الشمال ومعناها والتفاعل الإيجابي معها؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن