منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وحتى نهاية التسعينيات، حاول المسيري ومعه فريق من الباحثين أن يجمع في موسوعته كل جوانب تاريخ الجماعات اليهودية بامتداد بلدان العالم، منذ زمن العبرانيين في العالم القديم وحتى العصر الحديث، انتهاءً بدولة إسرائيل.
وفي نهاية حياته ركّز الرجل الذي رحل عن عالمنا في مثل هذه الأيام قبل 16 عامًا، جهده على تشريح دولة إسرائيل، وخلص إلى أنّ زوال تلك الدولة بات وشيكًا، نافيًا أن يكون لتوقعه هذا علاقة بالتشاؤم أو التفاؤل.
الجيوب الاستيطانية التي أخفقت في إبادة السكان الأصليين كان مصيرها الزوال
تحت عنوان "نهاية إسرائيل" كتب المسيري مقالًا يشير فيه إلى أنّ موضوع نهاية الدولة العبرية متجذّر في الوجدان الصهيوني حتى من قبل إنشاء الدولة: "أدرك كثير من الصهاينة أنّ المشروع الصهيوني مشروع مستحيل وأنّ الحلم الصهيوني سيتحوّل إلى كابوس".
ونقل المسيري عبارة كتبها الكاتب جدعون عيست في جريدة "يديعوت أحرونوت" إبان انتفاضة الأقصى: "ثمة ما يمكن البكاء عليه.. إسرائيل"، ثم شرح ما جاء في غلاف مجلة "نيوزويك" في تلك الفترة والتي عرضت صورة لنجمة إسرائيل كُتب في داخلها "مستقبل إسرائيل: كيف سيتسنى لها البقاء؟"، وطرحت المجلة سؤالًا آخر: "هل ستبقى الدولة اليهودية على قيد الحياة؟.. وبأي ثمن؟.. وبأية هوية؟".
تحت وطأة الضغوط الدولية المتصاعدة حينها، أكد الكاتب الإسرائيلي عاموس إيلون أنه في حالة يأس لأنه يخشى أن يكون الأمر قد فات: "لقد قلتُ لكم مجرد نصف ما أخشاه.. النصف الثانى أنّ الوقت قد فات بالفعل"، يضيف إيلون، وفقًا لما نقله المسيري عنه.
وتساءل المفكّر المصري "لماذا هاجس النهاية يطارد الإسرائيليين؟"، مجيبًا: "سنجد أنّ الأسباب كثيرة، ولكن أهمها إدراك المستوطنين الصهاينة أنّ ثمة قانونًا يسري على كل الجيوب الاستيطانية، وهو أنّ الجيوب التي أبادت السكان الأصليين مثل أمريكا الشمالية وأستراليا كُتب لها البقاء، أما تلك التي أخفقت في إبادة السكان الأصليين - مثل ممالك الفرنجة التي يقال لها الصليبية والجزائر وجنوب أفريقيا - فكان مصيرها الزوال".
تمسّك السكان الأصليين بأرضهم وحقوقهم واستمرار المقاومة الفلسطينية، كانت العلامة الأهم من وجهة نظر المسيري والتي ستفضي في النهاية إلى زوال دولة الاحتلال، ذلك إلى جانب أسباب أخرى طرحها في سلسلة من المقالات والحوارات التلفزيونية، منها تآكل المنظومة المجتمعية للدولة العبرية، وتصاعد الهجرة العكسية، وانهيار نظرية الإجماع الوطني، إضافة إلى عدم اليقين في المستقبل، وتحوّل إسرائيل إلى عبء على الإستراتيجية الأمريكية.
في الاتجاه ذاته الذي ذهب إليه المفكّر المصري الراحل، ذهب أيضًا المفكّر والمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه الذي وصل إلى نتيجة أنّ الصهيونية في طريقها إلى الانهيار، مشيرًا إلى أنّ "طوفان الأقصى" كان بمثابة زلزال ضرب المبنى القديم الذي وضع أساسه قبل 120 عامًا -في إشارة إلى المشروع الصهيوني وتأسيس الدولة -، فكشف ذلك الزلزال الشقوق التي أصابته.
بابيه تساءل: "هل يمكن للمشروع الصهيوني في فلسطين، أي المشروع القائم على فكرة فرض دولة يهودية على دولة عربية وإسلامية وشرق أوسطية، أن يواجه احتمال الانهيار؟". وكما استند المسيري إلى معطيات وعلامات تدلل على قرب نهاية إسرائيل، اتكأ بابيه على 6 مؤشرات تدعم النتيجة التي توصل إليها - استعرضهم الباحث سمير مرقص في مقاله انهيار الصهيونية -.
مؤشرات بابيه انحصرت في؛ انقسام المجتمع الإسرائيلي، والأزمة الاقتصادية المتفاقمة، والعزلة الدولية المتزايدة، وفقدان الدولة العبرية للحصانة التي اكتسبتها ضد الانتقاد في الغرب، وضعف الجيش، وأخيرًا تجدد طاقة الأمل لدى جيل الشباب الفلسطيني في إقامة الدولة المستقلة الواحدة وإنهاء الاستعمار.
تجمّعت علامات "النهاية" ولا إفراط في التفاؤل عندما نقول إنّها صارت قريبة وقد يُدركها جيلنا
قد يرى البعض فيما طرحه المسيري وبابيه، أنها ليست سوى "نبوءات" لمفكّرين حالمين رافضين لنزعات الغطرسة ومنطق القوة الوحشية الذي يسيطر على قادة إسرائيل، إلا أنّ قضية زوال الدولة ونهاية الصهيونية صارت كابوسًا يؤرق أيضًا ساسة وجنرالات الكيان، فها هو إيهود باراك رئيس الوزراء الأسبق يحذر من أنّ حكومة إسرائيل الحالية تجرّ الكيان نحو "كارثة محققة"، وهو ما أشار إليه رئيس الموساد الأسبق تامير باردو الذي صار مقتنعًا بأنّ إسرائيل باتت تقترب من نهايتها أكثر من أي وقت مضى، وأنّ الانقسام الذي ضرب المجتمع الإسرائيلي أصبح يمثّل تهديدًا وجوديًا للدولة.
تجمّعت علامات "النهاية"، فالدعاية الصهيونية بأنّ إسرائيل دولة أخلاقية سقطت وتعرى الوجه القبيح للدولة العبرية في الأشهر التسعة الماضية حتى صارت إسرائيل كيانًا منبوذًا مكروهًا، في المقابل أثبتت تلك الشهور أنّ أصحاب الأرض أكثر تمسكًا بحقهم وثباتًا على موقفهم رغم كل ما واجهوه من عدوان وبطش وخذلان وتواطؤ، لذا فبلا مبالغة ولا إفراط في التفاؤل عندما نقول إنّ "النهاية" صارت قريبة وقد يُدركها جيلنا.
(خاص "عروبة 22")