وهكذا، شهدَت مدينة عفرين في شمال غربي سوريا صدامًا محتدمًا بين "هيئة تحرير الشام" من جهة و"الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا من جهة أخرى، واتخّذ هذا الصدام أشكالًا متعددّة منها اقتحام مقرّ الوالي التركي وإنزال العَلَم التركي من فوق مؤسسات المجالس المحلية بل وإحراقه، وصولًا إلى إطلاق متبادل للنار أسفر عن سقوط قتلى وجرحى من الجانبين.
وتوازى هذا التصعيد في مدينة عفرين السورية مع تصعيد آخر في ولاية قيصري التركية بقيام بعض المحتجّين من الشباب التركي بإحراق محلات اللاجئين السوريين في الولاية وتحطيم سياراتهم ونهب ممتلكاتهم.
قد يلعب الوكيل دور العميل المزدوج فيبيع خدماته لأكثر من راعٍ تعظيمًا للكسب والمنفعة
ومثل هذا التوازي حدا ببعض المحلّلين إلى القول إنّ اندلاع المواجهات في عفرين أتى ردًا على هجمات الأتراك على المصالح السورية، لكن في حقيقة الأمر فإنّ نار التوتّر كانت كامنة تحت الرماد في العلاقة بين "هيئة تحرير الشام" وتركيا وكانت ستشتعل حتمًا وتتأجج سواء وقعت تطورات ولاية قيصري أم لم تقع، ويعزّز ذلك أنّ موجات الاعتداء على اللاجئين السوريين كانت تتفجّر من وقت لآخر دون أن تنعكس بالضرورة على الوضع في الشمال السوري، ما يعني أنّ هذا العامل وحده ليس كافيًا للتبرير، أما العامل الذي يُعزى له تفسير انفجار الوضع في الشمال السوري فإنه الخاص بتغيّر العلاقة بين الراعي أي تركيا، والوكيل أي "هيئة تحرير الشام".
برزَت في العقود الأخيرة ظاهرة تُسمّى بظاهرة الفاعلين المسلّحين من غير الدول مع التحوّل في نمط الحروب من حروب نظامية إلى حروب غير نظامية. فهؤلاء الفاعلون هم عبارة عن تنظيمات مسلّحة تخوض حرب عصابات داخل دولها وخارجها في تنويع على ظاهرة المرتزقة مع اختلاف في التفاصيل بحكم اختلاف السياق الدولي، وقد تنشأ التنظيمات المسلّحة نتيجة حدوث انشقاقات في الجيوش الوطنية وهو ما شهدناه على نطاق واسع بعد "الربيع العربي" عام ٢٠١١ في عددٍ من دول المنطقة، لكن منها أيضًا ما يتكّون من عناصر مدنية لأسباب مختلفة.
ومن أفضل المصادر العربية التي حلّلت هذه الظاهرة المتفاقمة في وطننا العربي، ملحق أصدرته مجلة السياسة الدولية في مصر في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام ٢٠١٩ تحت عنوان "الوكلاء في العلاقات الدولية: اتجاهات نظرية". في هذا الملحق تحدّى المؤلفون وهم كثر بعض الأفكار الشائعة عن العلاقة التي تربط بين الراعي والوكيل، ومن هذه الأفكار أنّ الوكلاء هم منفّذون مخلصون لأوامر الرعاة، وأنّ كل وكيل يكون له راعٍ واحد، وأنّ الراعي بلجوئه لصيغة التوكيل إنما يضمن عدم تورّطه المباشر في الصراع.
فمن جهة قد يتمّرد الوكلاء على أوامر الرعاة كما يحدث مثلًا عندما يرغب الرعاة في إنهاء الصراع ويرفض الوكلاء، لأنّ هؤلاء الوكلاء يتربّحون من الصراع، وتنشأ لهم من خلال استمرار الصراع مصالح مادية وأخرى تتعلّق بالسلطة والنفوذ. ومن جهة أخرى، فقد يلعب الوكيل دور العميل المزدوج فيبيع خدماته لأكثر من راعٍ تعظيمًا للكسب والمنفعة. ومن جهة ثالثة، فإنه لا شيء يضمن ألا تتطوّر مجريات الصراع بشكل يرى فيه الرعاة أنّ الاعتماد على الوكلاء لا يكفي لحماية أمنهم ما يضطرهم للتدخّل المباشر والتورّط في الحرب.
وعندما ننتقل إلى علاقة تركيا بـ"هيئة تحرير الشام"، نبدأ بالتأكيد على أنّ الهيئة ليست الوكيل الأهم لتركيا في الساحة السورية، فهناك وكلاء تعتمد عليهم تركيا بالأساس في مقدّمتهم "الجيش الوطني السوري". لكن في ما يخّص الهيئة تحديدًا فلقد اتخّذت علاقتها بتركيا مسارات مختلفة عبر السنين، أحد هذه المسارات هو التنسيق في قضايا من نوع تمكين تركيا للهيئة من السيطرة على إدلب، وتسيير دوريات أمنية مشتركة، وتوسّط تركيا لوقف الاشتباكات بين الهيئة والمجموعات الأخرى لعل الهيئة تكون قادرة على استيعاب فوضى انتشار تلك الجماعات.
العلاقة بين الراعي والوكيل متغيّـرة بتغيّـر مصالح طرفيها
لكن في مرحلة أخرى وأمام انفتاح شهيّة الهيئة للتمدّد في شمال غربي سوريا بدأت محاولات كل من الجانبين تفتيت الجماعات الموالية للجانب الآخر.
ومثل هذه الصورة توضّح لنا طبيعة العلاقة بين الراعي والوكيل، فهي علاقة متغيّرة بتغيّر مصالح طرفيها، وهي علاقة معقّدة لأنّ الوكلاء يتعرّضون لانشقاقات عن تنظيماتهم فيكون لكل فصيل منشق راعيه الخاص به، وهي علاقة تدل على مدى التشابك بين الداخل والخارج بحيث لم يعد بالإمكان فصلهما. ومع كل النتائج الكارثية لهذه العلاقة المسمومة إلا أنها آخذة في الانتشار أكثر وأكثر.
(خاص "عروبة 22")