جاء الهجوم العنيف، بطابعه الاستفزازي، الذي شنه عبدالملك الحوثي، قبل أيام قليلة، على المملكة العربيّة السعودية بمثابة رسالة تأتي في توقيت غريب. مصدر الغرابة أنّ البند الوحيد الذي احترمته «الجمهوريّة الإسلاميّة» في الاتفاق الموقّع مع المملكة برعاية صينيّة هو ذلك الذي يخصّ العلاقة بين البلدين من جهة ووقف الاعتداءات الحوثية على منشآت سعوديّة من جهة أخرى.
وقّع الاتفاق في بيغينغ (بكين) في 10 مارس 2023. ليس معروفاً ما الذي استجد وجعل زعيم الحوثيين يقدم على خطوته هذه. بكلام أوضح ما الذي تغيّر كي يخرج عبدالملك الحوثي، الذي لا يتصرف من دون تعليمات إيرانية، عن طوره؟
قد تكون المسألة متعلقة بنقل البنك المركزي اليمني إلى عدن حيث المقر الموقت لـ«الشرعية» اليمنية، في حين يعتبر الحوثيون، منذ سيطرتهم على صنعاء في 21 سبتمبر 2014، أنّهم يمثلون الشرعية اليمنية وأنّ المناطق التي توجد فعلاً تحت سيطرتهم نواة لدولة قويّة لا بدّ لها أن تتمدّد يوماً. ينظر الحوثيون إلى نقل البنك المركزي من زاوية وجود رغبة اقليمية في منعهم من إقامة دولة خاصة بهم من منطلق أنّهم يمثلون الطرف السياسي والعسكري الأقوى في اليمن.
يتصرّف الحوثيون بالفعل كأنّهم الدولة في اليمن رافضين أي تسوية سياسيّة من أي نوع وذلك منذ وضع يدهم على صنعاء قبل أقلّ بقليل من عشر سنوات.
في الواقع، بسبب تعنت الحوثيين، فشلت كل المحاولات التي تستهدف التوصل إلى تسوية سياسية تشارك فيها كلّ المكونات اليمنية الأخرى في الشمال والجنوب والوسط بغية إخراج البلد من الأزمة العميقة التي يمر فيها والتي أدت إلى تشظيه.
ليس سرّاً، أن المطروح منذ سنوات عدّة صيغة جديدة لليمن تقوم على اللامركزية وحتّى الفيديرالية تأخذ في الاعتبار أن الحوثيين جزء من النسيج الاجتماعي اليمني ولا يمكن، بأي شكل، استبعادهم عن أي حل سياسي شامل.
يكشف تصعيد عبدالملك الحوثي رغبة في ممارسة لعبة الابتزاز من جهة والتصرف على أساس أنّ هناك دولة قائمة بحد ذاتها في شمال اليمن من جهة أخرى. مطلوب الاعتراف بهذه الدولة والتخلي عن أي محاولة لجمع اليمنيين من أجل إيجاد تفاهم بينهم. مثل هذه الدولة الحوثية تنتظر الفرصة المناسبة كي تتوسّع أكثر ولا تتوقع من أي طرف الوقوف في وجه طموحاتها عن طريق نقل البنك المركزي إلى عدن وجعل المصارف اليمنية تعمل من عاصمة الجنوب التي تُعتبر العاصمة الموقتة لليمن.
توجد حالياً في شمال اليمن دولة تابعة لإيران عاصمتها صنعاء، بل توجد قاعدة صواريخ ومسيرات إيرانيّة في شبه الجزيرة العربيّة. تنفذ هذه الدولة، التي صار عمرها عشر سنوات كلّ المطلوب منها، بما في ذلك عرقلة الملاحة الدولية في البحر الأحمر... بحجة دعم غزّة. لدى وجود حاجة إيرانيّة إلى التهدئة مع دول الخليج، لا تعود هناك اعتداءات انطلاقاً من الأراضي اليمنيّة. يكون التصعيد في هذه الحال بالذات محصوراً بالبحر الأحمر ويكون الكلام عن ردّ على إسرائيل بالتنسيق مع ميليشيات عراقيّة.
من هنا، يبدو منطقياً التساؤل عن الأسباب التي جعلت عبدالملك الحوثي يلجأ إلى التصعيد في هذه الأيام بالذات؟
في غياب الأجوبة التي تفسّر هذا التوتر الحوثي، يمكن التساؤل أيضاً هل من علاقة بين انتخاب رئيس جديد للجمهورية في إيران هو مسعود بازشكيان، المحسوب على تيار الإصلاحيين، والتصعيد الإيراني عن طريق اليمن؟ هل تريد «الجمهوريّة الإسلاميّة» التأكيد، لكلّ من يعنيه الأمر، أنّ شيئاً لم يتغيّر في «الجمهوريّة الإسلاميّة» وأنّ «الحرس الثوري»، الذي يُعتبر الحوثيون جزءاً لا يتجزّأ من تركيبته، لا يزال صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في شأن كلّ ما له علاقة بالسياسة الخارجيّة الإيرانيّة وتوجهاتها؟
تظهر الحملة الحوثية المتجددة، بكلّ ما تضمنته من عدوانيّة، وجود نيات مبيتة تجاه بعض دول الخليج التي لا تستطيع تجاهل التغيير في مزاج عبدالملك الحوثي... وربّما في المزاج الإيراني ككلّ. ليس مستبعداً أن تعيد هذه الدول النظر في كلّ حساباتها اليمنية بعد مرور أشهر عدّة كان الرهان فيها على إمكان الجمع بين اليمنيين وإيجاد تفاهم في ما بينهم.
يبقى أنّ الحوثيين يتصرفون هذه الأيام بطريقة تشير إلى أنهم يتعرّضون في الداخل اليمني لضغوط شديدة كما أنّ عرض العضلات الذي يلجأون إليه في البحر الأحمر لم تعد منه فائدة تذكر بعد ارتداده عليهم وتأليب الرأي العام العالمي ضدهم. لم تعد من فعالية كبيرة للمسيرات الحوثية. لم تتعرض إسرائيل لأذى يذكر نظراً إلى أن موانئها الأساسية على البحر المتوسط. في المقابل، أثرت الممارسات الحوثية على الملاحة في قناة السويس. أضرت ببلد عربي هو مصر يقف في الصفوف الأولى دفاعاً عن غزّة وأهلها. تقف مصر حاجزاً منيعاً في وجه تهجير الغزاويين من أرضهم.
فوق ذلك كلّه، يبدو أن العالم، على رأسه الولايات المتحدة، بدأ يدرك جيداً مدى خطورة الحوثيين وسياسة الابتزاز التي يمارسونها على كلّ صعيد بدءاً باحتجاز موظفي الأمم المتحدة من المواطنين اليمنيين في صنعاء. في ظلّ هذه التحولات، لا يمكن تجاهل أن من بين الأسباب الأخرى، التي تجعل الحوثي يلجأ إلى التصعيد، احتمال عودة دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض قريباً، مع ما يعنيه ذلك من مواقف أكثر تشدداً تجاه إيران.
("الراي") الكويتية