تقدير موقف

بزشكيان وإيران.. بين تعاظم القوة الخارجية وتفاقم المشكلات الداخلية

لم ينافس العدوان المتواصل على غزّة، إلّا نتائج الانتخابات التي شهدتها بريطانيا وفرنسا وإيران. وكان رفض العدوان الصهيوني على غزّة عاملًا حيويًا مؤثرًا في هذه الانتخابات التي حظي فيها حزب العمال البريطاني بفوز وُصف بالتاريخي ضد حزب المحافظين. ولعلّ الفوبيا من فوز "اليمين المتطرّف" وضع فرنسا أمام تقدّم "اليسار" المتضامن مع الفلسطينيين والداعي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، ما تسبّب بانتكاسة لـ"الماكرونية" سيّما وأنّ ايمانويل ماكرون هو من قرّر الانتخابات المبكرة، فخابت آماله وجعلته ثاني المحبطين، أمّا ايران بوصفها زعيمة "محور الممانعة"، فقد دوزنت انتخاباتها ببراغماتية لافتة في لحظة تُرسّم فيها تضاريس النفوذ في المنطقة.

بزشكيان وإيران.. بين تعاظم القوة الخارجية وتفاقم المشكلات الداخلية

إذا كانت انتفاضة الطلاب التضامنية مع غزّة في الجامعات الأوروبية والأمريكية قد فعلت فعلها في صناديق الانتخابات البرلمانية، فقد جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية في إيران المنخرطة سياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا مع حركات المقاومة ومنها "حماس"، مخالفة للانتخابات الأوروبية، فأوصلت المرشح المحسوب على التيار الإصلاحي مسعود بزشكيان، وأقصت المرشح المحسوب على المحافظين والحرس الثوري سعيد جليلي. وقد كانت الانتخابات الإيرانية التي أبرزت إدارتها ممارسة الحيادية والمساواة بين المرشحين في التغطيات الإعلامية محل متابعة واسعة خصوصًا في المناظرات بين المرشحين، فما الذي أدّى إلى فوز المرشح الإصلاحي بزشكيان؟

أمام التوقف عند مؤسّسات الدولة الإيرانية المعنية بالانتخابات، نكتشف ببساطة أنّ نحو 50% من نتيجة الانتخابات يحسمها "مجلس تشخيص مصلحة النظام" الذي ينظر في أهلية المرشحين، فرفض عدة مرشحين بينهم أحمدي نجاد وعلي لاريجاني، وسمح بخوضها لعدّة مرشحين محافظين ولمرشح إصلاحي واحد هو مسعود بزشكيان، الذي تقدّم في الدورة الأولى وتمكن من الفوز في الدورة الثانية.

نظام إيران السياسي الديني يحلّق بجناحين إصلاحي ومحافظ

ما يجدر ذكره أنّ الانتخابات الإيرانية فرضتها وفاة الرئيس السابق ابراهيم رئيسي المفاجئة بسقوط مروحيته والتي لم تُفك كامل شيفرتها بعد، ما يعني أنّ ايران لم تكن جاهزة لانتخابات فُرضت عليها، لكنها استطاعت تمرير الانتخابات دون أن تستطيع جلب مشيّعي رئيسي إلى التصويت لخلفه. فالانتخابات جرت في لحظة تُقرع فيها طبول الحرب من إيران ومن حولها، ما يفترض بحسب بعض المراقبين اختيار رئيس يتصف بالمواجهة وخوض الحرب، وليس بالانفتاح على الغرب خصوصًا حيال الملف النووي، ورفع العقوبات، ومد يد الصداقة للجميع.

موجة التفاؤل عقب فوز بزشكيان سرعان ما أخذت تتبخّر لدى خصوم الحرس الثوري خارج إيران وداخلها على السواء، بعد الرسائل التي بثّها بزشكيان مذ لحظة إعلانه خطاب النصر من مرقد الخميني في طهران، مرورًا بزيارته ضريح جنرال نفوذ إيران الخارجي قاسم سليماني، وانتهاءً برسالة الردّ على مباركة زعيم "حزب الله" والتي أكد فيها بزشكيان أنّ "دعم المقاومة متجذّر في السياسات الأساسية للجمهورية الإسلامية"، وهي الرسالة التي فعلت فعلها في تبديد موجة التفاؤل بفوز الإصلاحي بزكشيان.

لعلّ اللعب على التناقض بين المحافظين والإصلاحيين وإن كان جائزًا في المناكفات السياسية والإعلامية، إلا أنّه عديم الجدوى في إيران التي يمكن القول إنّ نظامها السياسي الديني يحلّق بجناحين إصلاحي ومحافظ، سيّما وأن ليس بين التيارين من يرتدي ربطة عنق، وأنّ المعمّمين والمدنيين منتشرون بين الطرفين، بشهادة الرئيسين الإصلاحيين السابقين محمد خاتمي وحسن روحاني، لكن في عهديهما كان هناك قاسم سليماني - الذي اغتاله دونالد ترامب - والذي حوّلته إيران إلى "أيقونة" يجري تكريسها كجزء من البروتوكول الإيراني.

الانتخابات الرئاسية الإيرانية أفرزت نحو 16 مليون إنسان صوّتوا لصالح التنمية ومعالجة المشاكل الاقتصادية المزمنة

وتفيد السيرة الذاتية لمسعود بزشكيان الذي تخرّج طبيبًا لحظة عودة الخميني إلى طهران، وانخراطه في حرب إيران مع العراق كطبيب مقاتل، ثم تابع مساره المهني وتدرّج في دواليب الدولة، وبصفته نائبًا وقّع على قوانين فرض الحجاب وتعزيز موقع الحرس الثوري الإيراني ضد الولايات المتحدة واعتبار القوات والمخابرات الأميركية كيانات إرهابية.

ربما نجحت إيران بقيادة المرشد علي خامنئي في تحويل وفاة ابراهيم رئيسي من محنة إلى منحة، فجعلت من انتخابات الـ50% فرصة لمحاولة تدوير الأزمات والمختنقات الاقتصادية والاجتماعية خاصة، وهي محاولة لا يتقنها حتمًا سعيد جليلي صاحب اللغة السياسية العنيفة، ولهذا تجري إيران الخامنئية نوعًا من المواءمة بين معالجة الملفات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية الداخلية، وبين تعاظم نفوذ قوتها الخارجية وحضورها الإقليمي المتجاوز والعابر للدول والمطل والفاعل في فلسطين القضية الأكثر حساسية في التاريخ.

صحيح أنّ تشييع سليماني وبعده رئيسي تعتبره طهران انعكاسًا لحجم التأييد والاحتضان الشعبي للنظام الإيراني، لكنّ الصحيح أيضًا أن الانتخابات الرئاسية أفرزت نحو 16 مليون إنسان صوّتوا لصالح التنمية والتعاون مع الغرب ودول المنطقة فضلًا عن معالجة المشاكل الاقتصادية المزمنة، الأمر الذي تدركه دولة المرشد وتحتاج إلى من يرفع لواء معالجته.

صفقة وقف النار في غزّة مهدّدة بالانهيار والانزلاق نحو الحرب الواسعة

هذه التحديات شكّلت صلب البرنامج الانتخابي لبزشكيان المصمّم بعد إعلان فوزه على التصدي لها، انطلاقًا من المشروع النووي ورفع العقوبات والتي كان يرفع لواءها جواد ظريف الذي ستكون له بصمته القوية في هذه الملفات حتى لو لم يستعد كرسيه في الخارجية الإيرانية.

لا يمكن عزل نتائج الانتخابات الإيرانية عن التحولات الجارية حول العالم خصوصًا في لحظة تتعالى فيها أصوات في الحزب الديمقراطي تطالب جو بايدن بسحب ترشيحه لاعتلال صحته، كما تتأرجح ظروف انتاج صفقة لوقف إطلاق النار في غزّة توازيًا مع التداعي الذي يصيب حكومة بنيامين نتنياهو، وبروز التصدع بين مكوناتها وبين المؤسّسات العسكرية الأمنية وإدارة الحرب على غزّة، والتي ربما باتت أقرب لأن تكون تفصيلًا قياسًا بجبهة جنوبي لبنان المتصاعدة نوعًا وكمًّا داخل لبنان وسوريا وداخل مستوطنات الجليل والجولان، ما يعزّز المراوحة في انتاج صفقة مهدّدة بالانهيار والانزلاق نحو الحرب الواسعة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن