بصمات

الحارة والعوامة

تتجلى قوة الحبكة الروائية الجيدة عند كبار الروائيين، مع القدرة على الامتاع، (الشرط الضروري والكافي في الإبداع الفني) في القدرة على نسج عوالم شاسعة انطلاقًا من فضاء صغير محدود. تحضرني في هدا الصدد أمثلة شهيرة معروفة أذكر منها: ارنست هيمنجواي في "الشيخ والبحر"، وغارسيا غابرييل ماركيز في"مائة عام من العزلة"، وجورج أوريل في "1984"، وغونتر غراس في "الطبل"، ومعاصرنا الفرنسي الحائز على جائزة نوبل باتريك موديانو في "كي لا تتوه في الحي".

الحارة والعوامة

في كل الأعمال الرائعة التي ألمحت إليها يكاد فضاء الرواية يضيق فليس يتجاوز دائرة صغيرة (السفينة الصغيرة في ليلة واحدة في البحر يعود الشيخ فيها من رحلة افترست الحيتان السمكة الوحيدة الضخمة التي اصطادها بعد محاولات عدة فاشلة، قرية "ماكوندو" وعالمها الفانطاستيكي كما يرسمه غابرييل ماركيز، المجال الضيق الدي تدور فيه أحداث / أو، بالأحرى، لا أحداث رواية أورويل حيث بطل الرواية تحت العين الخفية لـ"الأخ الكبير"، الغرفة التي يحتبس فيها بطل "الطبل" الذي قرر التوقف عن التقدّم في العمر مند السنة الثالثة من عمره).

لا يرتقي الروائي في مدارج العالمية إلا بالقدر الذي يُحسن فيه التحدث عن العالم الذي ينتمي إليه

ثم تتزاحم في ذهني أسماء ميلان كونديرا، في أكثر من واحدة من رواياته، والتركي أورهان باموك في "الأحمر هو اسمي"، والأمريكي بول أوستير في "ثلاثية نيويورك" وفي غيرها... وأسماء روائيين غيرهم. ذلك أنّ الروائي المتمكّن من "صنعة الرواية" أولًا، والمالك لرؤية أصيلة للكون ثانيًا، والقادر ثالثًا على الغوص بعيدًا في أعماق النفس البشرية، يملك أن يرتاد أفاق العالمية، في الوقت الذي يظل فيه متصلًا بعالمه الصغير ومرتبطًا بالمحلية أقوى ما يكون الارتباط.

لا يرتقي الروائي في مدارج العالمية إلا بالقدر الذي يُحسن فيه التحدث عن العالم الذي ينتمي إليه. انطلاقا من عالم صغير يتمكن من نسج خيوطه وإكسابه وجودًا ينبض بالحياة، يقدر الروائي أن يرتقي في مدارج الشهرة والعالمية.

علينا، من الطبيعي، أن لا ننسى أنّ الأمر يتعلق، بدءًا ونهايةً، بعالم الخيال وسلطان التخييل. ولست أجد غضاضة في القول إنّ اسم نجيب محفوظ يمثّل أمامنا، في هذا الحديث، من تلقاء ذاته فهو يفرض نفسه، في معرض هذا القول، فرضًا. لا، بل إني أذهب أبعد من ذلك فأضيف: إنّ جمال وقوة السرد عند صاحب الثلاثية الأشهر و مؤلف "أولاد حارتنا" و"السراب " و"ثرثرة فوق النيل"، يكمنان في القدرة العجيبة على نسج خيوط عوالم متناهية الصغر. والملاحظ ، متى استثنينا الثلاثية "الفرعونية" (كفاح طيبة، عبث الأقدار، رادوبيس) من جهة أولى والمجموع الذي يضم "المسرحيات" من جهة ثانية، فنحن نجد أنّ كل الروايات والقصص القصيرة التي ألّف صاحب "الطريق" لا تكاد الأحداث فيها تخرج عن إحدى مدينتين اثنتين: الاسكندرية والقاهرة. بل إنّ القاهرة قد نالت من كتابة صاحب "القاهرة الجديدة" نصيب الأسد، مما يجعل مجال السرد يكاد يكون منحصرًا في القاهرة، بل وفي مناطق قليلة منها.

لعل القارئ يذكر أنني كتبتُ، من هذا المنبر، مدافعًا عن الفكرة التي تقضي بأنّ مؤلف "اللص والكلاب" و"الشحاذ" و"ميرامار" ليس له أن يكون مرآةً للمجتمع المصري - كما يذهب الكثيرون إلى ذلك - وإنما الأحق والأصدق أن نتحدث عن المجتمع المصري كما يمثّل في وعي نجيب محفوظ، أي كما يصوّره قلم الروائي ويصوغه خياله، وبالتالي فهو يركّب، في مستوى السرد الروائي، المجتمع المصري كما يعن لعمله الإبداعي أن يقوم بذلك وليس المجتمع المصري "كما هو". فشتان ما بين القولين من اختلاف ومغايرة.

المجتمع المصري في الوعي الروائي لنجيب محفوظ يتم تركيبه انطلاقًا من عالمين متناهيي الصغر: عالم الحارة وعالم العوامة

وأجدني، في حديثي اليوم، في حاجة أن أضيف مدققًا أنّ المجتمع المصري، كما يمثّل في الوعي الروائي لنجيب محفوظ، يتم تركيبه انطلاقًا من عوالم صغيرة - بل من عالمين متناهيي الصغر: عالم الحارة، وعالم العوامة. أنت تجد المجتمع المصري، كما يمثّل في الوعي الثقافي لصاحب "بيت سيء السمعة" و"همس الجنون" و"دنيا الله" في الحديث عن الحارة وشخصياتها - على نحو، أو في شق منه بالأحرى - وتجده، في شقه الآخر أو على نحو مغاير في فضاء "العوامة" المتناهي الصغر. وللعوامة في روايات نجيب محفوظ صورتان ليستا بالضرورة متطابقتين، بل الأحق أنهما متغايرتان ترمز لهما شخصيات عرف صاحب "ثرثرة فوق النيل" كيف يكسبها حياةً وحضورًا قويين: عوامة "سي السيد" وصحبه في "بين القصرين" و" قصر الشوق" و"السكرية". وعوامة أنيس زكي وعم عبده وباقي "الشلة الغريبة". عوامة الطبقة الوسطى، تحت الاحتلال البريطاني، في ثلاثينات القرن الماضي حتى ليلة ثورة 23 يوليو. وعوامة الطبقة الوسطى بعد هزيمة 1967 وانبثاق فئات وقيم جديدة شاعت في الطبقة الوسطى. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن